Arabes du Christ


" الهجرة المسيحية تحمل رسالة غير مباشرة للعالم بأن الإسلام لا يتقبل الآخر ولا يتعايش مع الآخر...مما ينعكس سلباً على الوجود الإسلامي في العالم، ولذلك فإن من مصلحة المسلمين، من أجل صورة الإسلام في العالم ان .... يحافظوا على الوجود المسيحي في العالم العربي وأن يحموه بجفون عيونهم، ...لأن ذلك هو حق من حقوقهم كمواطنين وكسابقين للمسلمين في هذه المنطقة." د. محمد السماك
L'emigration chretienne porte au monde un message indirecte :l'Islam ne tolere pas autrui et ne coexiste pas avec lui...ce qui se reflete negativement sur l'existence islamique dans le monde.Pour l'interet et l'image de l'Islam dans le monde, les musulmans doivent soigneusement proteger l'existence des chretiens dans le monde musulman.C'est leur droit ..(Dr.Md. Sammak)

mercredi 9 décembre 2020

معًا نحو المئوية الثانية... 
قراءة في الواقع اللبناني وفي الشهادة المارونية، 
من أجل رؤيةٍ جليّةٍ وملتزمة تستشرف "علامات الأزمنة" وتركّز معالم المئوية الجديدة - تشرين  2020 

معاً نحو المئويّة الثانيّة ... 
" دعني أعبر فأرى الأرض الطيّبة التي في عبر الأردن غربا ً وذلك الجبل الجديد ولبنان" (سفر التثنية 3\25) 
مع اطلالة المئوية الثانية لدولة لبنان الكبير، وفي خضمّ أزمات غير مسبوقة يرزح تحتها الوطن العزيز، يقف الموارنة وكنيستهم متحصّنين بالأيمان، ومستلهمين الروح، من اجل رؤية صافية تستشرف معالم الطريق التي تنتظر غدهم، وتضمن بقاءهم الحر والفاعل، ودورهم الرسولي والشاهد، في لبنان والشرق كما في سائر بلدان الانتشار. هذه " المذكرة – الوثيقة" وضعتها “رابطة قدامى الإكليريكية البطريركية المارونية" انسجاماً مع غايتها العاملة على "انماء الشخصية المسيحية الملتزمة... ودعم وتحصين رمزية بكركي ودورها التاريخي الرائد والفاعل، والمشاركة العملية في نهج الكنيسة المارونية ايمانياً ووطنياً وثقافياً..والعمل بروح الالتزام بالقيَم وبالإنسان وبالأرض، من اجل الدفاع عن الحرية وارتقاء الأنسان وأنسنة عالمه بالأخوّة والمساواة " – على ما نص النظام الأساسي للرابطة (المادة 4) - تستند "الرابطة" في وثيقتها الحاضرة الى ثوابت ومسلّمات ركّزتها تعاليم الكنيسة ولا سيما اعمال المجمع الفاتيكاني الثاني، وبعض الرسائل البابوية التي تعنينا مباشرة، والإرشاد الرسولي "رجاء جديد للبنان"، ورسائل بطاركة الشرق الكاثوليك والبطاركة الموارنة، وكذلك منشورات " المركز الماروني للتوثيق والأبحاث "، واعمال المجمع البطريركي الماروني الذي شكّل قاعدة متجدّدة للانطلاق، ولإطلاق الكنيسة المارونية نحو تطلّعات جديدة تحاكي الحداثة، وتواكب عمليا زمن المئوية الجديدة التي تنتظرنا ولبنان. ولئن كان للشق السياسي، بمعناه الأسمى، المكان الأوسع في هده المذكّرة، فلأن ثمة ارتباطاً عضوياً وتاريخياً بين الكنيسة المارونية – تحديداً- والوطن اللبناني، ولأن دوراً أساسياً بل تأسيسياً ادّاه للكيان بطاركتها، ويعمل على تركيزه وتعزيزه غبطة البطريرك الحالي مار بشارة بطرس الراعي ، مَن نرفع اليه هذه الوثيقة، وهو مَن اؤتمن على وديعة فريدة تحمل في حقيقة "مجد لبنان" هموم اللبنانيين وآلام شعبه وآماله والتطلعات. انها العودة الإلزامية الى المرجعية الدهرية بالنسبة للموارنة – كما للكثيرين سواهم - باعتبارها نقطة الارتكاز التاريخية في قيام لبنان، بعدما أوتيت تفويضا شاملا امّنها أيضا على مستقبله، وهي اليوم مدعوة بإلحاح من الجميع، كما في كل لحظة مصيرية من حياة الوطن، كي تبقى على خط الدفاع الأول فتضطلع بالدور الطليعي والموجّه ، بل بالدور النبوي الذي ينقذ لبنان ويبقي على مشعل الرجاء الجديد متقدا في احلك ازمنتنا ظلما وظلاما هذا "الرجاء الجديد للبنان" الذي أيقظه في صدورنا البابا القديس يوحنا بولس الثاني، انطلاقاً من تعلقه ب"لبنان الرسالة “، نترقّبه مقبلا من خضم المصاعب والتحديات المتعددة التي تحيط بنا، مؤمنين ومواطنين، ونجهد لملاقاته بما توفّر لنا من معطيات ووزنات لا بد من تفعيلها كما يدعونا المعلّم. تحمل الصفحات التالية دعوةً الى العمل من اجل غد أكثر اشراقا، من خلال قراءة واقعنا الوطني والمجتمعي والثقافي والكنسي، بناءً على ما كُتب وما تحقق وما لم يتحقق، وانطلاقاً من خبرات وتجارب، ناجحة حينا ومخيّبة أحيانا، واستناداً دائما الى دعوات وقواعد صادقة كما تعاليم كنيستنا، وراسخة كما أرز وطننا، في معناه ودعوته عبر التاريخ. عناوين عشرة محوَرية تحاول رسم المشهد اللبناني والماروني في استعداده لولوج المئوية الجديدة: 

أولاً: في الهويّة ...ودور لبنان 

1- ان النقاش الكياني حول هويّة لبنان ونهائيته انتهى؛ وهي هويّة تكمن في ذاتيته، بمكوّناته التاريخية والثقافية والمجتمعية، وتتكامل في انتمائه العربي - وهو عضو مؤسّس في جامعة الدول العربية - وقد شكلت عروبته، من خلال الاختبار وكل مساهماته العربية على مدى قرون، خياراً استراتيجياً ديناميكياً وبدون تبعية؛ كما تغتني هوية لبنان في انفتاحه على الدول والشعوب - وهو عضو في منظمة الأمم المتحدة وفي معظم المنظمات والهيئات الدولية والعالمية، ومساهم رئيسي في صياغة الشرعة العالمية لحقوق الانسان

 2- هذه الهويّة ترتكز جغرافياً على أرض واحدة، وتاريخياً على شعب واحد، غنيّ بتنّوع الجماعات الأثنية والدينية التي تكوّنه وتعيش فيه بحرية تامة، وطناً موحّدا لجميع ابنائه، مستقلاً بذاته، تعددياً في بنيته، يعتمد النظام البرلماني الديمقراطي، في جمهورية يحترم دستورها كل الأديان ويتساوى فيها جميع المواطنين في الحقوق والواجبات ، الوطنية والمدنية، وفي التعبير الحر عن الذات الفردية والجماعية، دونما تسلط لفرد او لجماعة او لفئة على أخرى 

3- الأعراف والدستور والمواثيق والقوانين والمعاهدات تشكّل عوامل أساسية لتركيز الهوّية، وتعزيز الانتماء، وعيش الالتزام، والمشاركة في المسؤوليات، وممارسة الحقوق الطبيعية والوضعية، والحريات، وسير عمل المؤسسات بتكامل وتناغم؛ وان النظام الدستوري، تحديدا، هو ثمرة اختمار تاريخي يساعد على اعتماد حوكمة رشيدة شرط التقيد بالنصوص وبروحيّتها واهدافها 

4- التعدديّة خاصة جوهرية من خصائص الهوّية اللبنانية واحدى مصادر غناها الإنساني والثقافي والمجتمعي والحضاري ، وهي التي أعطت للبنان صيغته الفريدة والمفيدة ، في اطار حوار الديانات والحضارات التي يحتاجها العالم . وان التعايش هو مبرر وجود لبنان الذي لا تحميه الامتيازات والولاءات بل الالتزام بقضية العيش المشترك، من خلال ميثاق يعتبر إنجازاً كيانيّاُ عميقاً وشرطاً لبقاء لبنان 

5- ان انشاء " اكاديمية الانسان للتلاقي والحوار" في لبنان بمسعى حثيث من رئيس البلاد، و بقرار دولي صادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 16 أيلول 2019، يؤكد دور لبنان، ماضيا وحاضرا ومستقبلا، في التربية على السلام والحوار، وعلى احترام الانسان وحرية المعتقد والرأي وحق الاختلاف

 6- الموارنة المؤتمنون تاريخياً وسياسياً على وديعة الكيان ووحدة الوطن وعلى القواعد التأسيسية للبنان، مدعوون – من خلال الموقع الأول في السلطة – الى الدفاع عن الدستور الذي يشكل الميزان والبوصلة في الحياة الوطنية، والى حماية قيَم الجمهورية والسهر على القواعد الحقوقية الناظمة للشأن العام كما أنهم مدعوون بالأخص الى الشهادة لدعوتهم المسيحية، روحاً ونهج حياة، والى العمل على انثقاف الانجيل في حياتهم الوطنية ولا سيما اثناء توليهم مسؤوليات عامة، حيث الالتزام والأمانة والخدمة والشفافية عناوين أساسية لتألّق شهادتهم امام الله والناس والتاريخ 

ثانياً : في الدولة ، معنىً ومسلكاً 

1- كان اعلان 1920 اعلاناً لدولة لبنان الكبير، الا اننا اسقطنا من الأذهان كلمة "دولة" ولم نحفظ من العبارة الا" لبنان الكبير"، وهو تعبير لا حياة له الا من خلال الدولة؛ غير ان مفهوم تلك "الدولة “ بقي غير ناضج في اذهان المعنيين وغير مطبّق على ارض الواقع اللبناني، فالصلاحيات الملَكية المرتبطة بمعنى الدولة بل بواجباتها كانت، ولا تزال، مشوبة بنواقص وتعديّات مما سمح بثورات وانتفاضات واضطرابات أهلية، ومما اظهر خللاً جسيما في العقد الاجتماعي وإذا كانت الدولة قائمة على أربعة اركان هي : احتكار القوة المنظّمة، واحتكار العلاقات الخارجية، وفرض الضرائب وجبايتها، وبناء السياسات العامة...وإذا كان الاخلال بأي منها يشكل اهتزازاً في بنية الدولة، فما القول بالإخلال بكلها او بمعظمها؟ وكيف العمل على إعادة تصحيح هذه الأركان والبناء عليها من جديد؟

 2- لقد حفلت الفترات والتجارب السابقة بمحاولات الاستقواء على الدولة، والاحتماء بالطائفة او بمن وراءها، وكانت الدولة اللاعب الأضعف بين المتنازعين، وقد فعلت التدخلات الخارجية فعلها في تأجيج بعض المواقف التي استعارت، غالبا، غطاء طائفيا لستر عورات متأصلة في مفهومها للدولة ولمناهج عملها. ان هذا الواقع المؤلم يستدعي توبة قومية تستتبع العمل على تركيز مفهوم الدولة التي يريدها اللبنانيون، بعد معاناة كلّفتهم الكثير وذهبت بمعظمهم فيما بعد الى قناعة راسخة بضرورية الدولة القوية، العادلة، والحاضنة لجميع مواطنيها 

3- اذا كان استقلال الدولة شرطاّ أساسياّ لكينونتها وديمومتها وتحقيق وجودها وممارسة دورها بحرية مطلقة، فأن في خيارات الدولة اللبنانية المتعلقة بابتعادها عن المحاور تألّقاً لهذه الحرية وترجمة عملية لتلك السيادة ، حيث تكون قوة الدولة في ذاتيتها ، وحيث يتركّز حضورها بعيدا عن الرهانات والتنازلات والاستسلام ، فتصنع لذاتها مساحة حرة وواحة للحوار والتلاقي الحضاري العاقل والمسؤول . انه الحياد المناسب للبنان، الذي لا يعني انطواء على الذات ، او تهرّباً من مسؤولية أخلاقية او قانونية او من دفاع صريح صارم بوجه مَن وما يهدم القيم ، او يهدّد حياة الأنسان وحريته وكرامته ، او يعرّض الوطن لأيّ خطر يمسّ بأمنه الخارجي والداخلي ، فالموقف ان يكون "نعم نعم او لا لا"، والحياد ان يكون إيجابيا وناشطا و متجاوبا مع حالات البلاد وحاجاتها وقراراتها المصيرية ، وان يتيح للبلد عيش الالتزام المسؤول والمواقف العقلانية، تحاشيا للوقوع في تجربة (المعليشية والتفرجية والأنسحابية ) التي لا تأتلف مع المسيحية ومسيرة كنيستها عبر العصور، وهي التي لم تنكفئ يوما عن المواجهة والشهادة للحق 

4- يؤكّد لبنان ان حياده يتركّز ويتعّزز ويستمر بالتفاف مواطنيه حوله، وبانتمائهم الوطني غير المشروط ، فقاعدة الانطلاق دولة لبنانية واحدة وقرار موحّد لشعب حر ، وجيش واحد ، والتزام بالدستور والمواثيق ؛ واذا كان لمساندة الجوار ومساعدة العالم دور في تعزيز المناعة الحيادية الا ان قدرة الداخل أساسية في صيانة الاستقلال والقرار الوطني الحر وان تأكيد حياد لبنان يتلازم مع معناه وفرادة رسالته الموجّهة "للشرق كما للغرب"، وقد ترافق الحياد مع المحطات الأساسية من تاريخه ولا سيما مع روحية الميثاق الوطني وفلسفته، ومع خيارات الحكومة الاستقلالية الأولى كما سائر الحكومات الميثاقية ، حيث لم يخلُ بيانٌ وزاري من الإضاءة على أهمية عدم الانحياز اللبناني ، كذلك اعلان بعبدا الصادر سنة 2012 وسائر المواقف اللاحقة ، وابرزها وأكثرها وقعا واثارة للاهتمام موقف غبطة البطريرك مار بشاره الراعي الذي اطلقه من الديمان في عظة الاحد 5 تموز2020

 5- تشكّل المذكّرة الصادرة بتاريخ السابع من آب 2020 عن البطريركية المارونية بعنوان " لبنان والحياد الناشط" موقفاً متقدّماً حول الموضوع الذي حرص غبطة البطريرك على السير به، ويعمل جاهدا على نشره وافهام كل المعنيين في لبنان والعالم بان حياده" ضمان وحدته وتموضعه التاريخي. وهو قوّته وضمانة استقراره...وهو القادر على المساهمة في استقرار المنطقة أيضا، والدفاع عن حقوق الشعوب العربية وقضية السلام، وعلى لعب دور في نسج العلاقات السليمة والآمنة بين بلدان الشرق الأوسط وأوروبا بحكم موقعه على شاطئ المتوسط..." - كما جاء في مقدمة المذكرة. هذه المذكرة التي تحدثت أولا عن موجبات طرح الحياد، ثم عن مفهومه واهميته كمصدر لاستقلال لبنان واستقراره وفوائده السياسية والاقتصادية، هي توجيه وتوجه نابعان من معاناة التدخلات الخارجية، ويهدفان الى قيادة خطى المسؤولين نحو لبنان الرسالة والدور والمستقبل؛ وان الأمل والعمل كي يلتف حول المبادرة البطريركية كل اللبنانيين انطلاقا من حوار بنّاء، بعيدا عن اية خلفيات وارتباطات واتهامات تُضعف سموّ الدعوة وتأخذها الى حيث لا يريدها لها أحد

 6- يبقى ان الاستقلال الحقيقي الذي أراده للبنان صانعوه سنة 1920 ومجددّو مسيرته سنة 1943، هو الذي صقلته المحن والتجارب عبر عقود كاملة ، وهو الذي تركّز اسسه علاقاته الخارجية وسياسته الواضحة مع بلدان المشرق والمغرب، وهو الذي تعزّز حقيقته قوته الداخلية التي تُبنى بالوحدة والتخطيط وبتفعيل قوى الإنتاج في قطاعات الاقتصاد والثقافة والانماء وسواها .." فالاستقلال – كما جاء في البيان الوزاري للحكومة الاستقلالية الأولى- يجب الا يكون مجرد انانية قومية وارضاء لعزّة النفس الوطنية فحسب ، بل يجب ان يكون نعمة تشمل حياة الشعب...وان يشعر كل لبناني بمزايا العهد الاستقلالي الدستوري وان يظهر اثره في كل ناحية... وعلى أساس ذلك سنعمد الى ادخال الإصلاحات المختلفة على آلة الحكم وعلى الحياة الوطنية السياسية العامة." ...ولا يزال الانتظار قائما منذ ايلول1943 

ثالثاً : في الشأن العام ...و"دعوتنا التاريخية" 

1- يواجه لبنان ظروفاً هي الأقسى في تاريخه المعاصر، ارهقت نظامه السياسي والاقتصادي والاجتماعي وطالت لقمة عيش مواطنيه، ومما يفاقم معاناته مطامع الجوار وانتهاك مجالاته الجوية والبرية والبحرية، وعدم ترسيم حدوده الشرعية، وكذلك أوزار النزوح السوري، والتداعيات المستمرة للجوء الفلسطيني، فضلاً عن ضعف المناعة الوطنية ، وتراجع الشعور بالانتماء نتيجة عجز الدولة عن قيامها بالحد الأدنى من واجباتها ، ناهيك بالفساد المستشري في معظم قطاعاتها مما أوصل الوطن الصغير الى هذا الدرك الخطير

 2- لقد تكسّرت النصال الموجّهة من كل ميَل على جسد الوطن الهش وبات ضحيّة الأقربين والأبعدين، وتداخلت أزمات الداخل وتحديّات الخارج، في ظل التحوّلات التي يشهدها العالم ولا سيما المحيط العربي الذي يعيش مخاضاً حضارياً بين الأصولية والحداثة، علاوةً على المشاكل البيئية والوبائية المستجدة والتي يرزح تحتها العالم، مع انعكاساتها السافرة على لبنان وواقعه الاقتصادي وقواه الإنتاجية وفرص نموّه

 3- وإذا كان للموارنة وللمسيحيين عموماً دور رائد في الوطن وفي المحيط، وذلك على صعد مختلفة كالفكر والكتابة والاقتصاد والأعمال، وفي حركة التحرر والتحديث التي قادها نهضويون مسيحيون، الا ان هذا الدور الى ضمور، مما يتطلب إعادة قراءة متجددة لواقع المهام المطلوبة منهم اليوم، وهو دور تاريخي لا يمكن التخلّي عنه رغم كل المعوقات – على ما ورد في اكثر من ارشاد ورسالة كنسية

 4- لطالما اكّدت التعاليم الكنسية المختلفة على أهمية العمل السياسي ونبله بحيث انه خدمة يقوم بها المرء لخير المجتمع والشأن العام، وقد دعا الارشاد الرسولي (رجاء جديد للبنان) " الكاثوليك خصوصا مع مواطنيهم الى ان يخدموا المدينة الأرضية في مجال الخير العام، مستمدّين من ايمانهم الهداية والمبادئ الأساسية للحياة في المجتمع" (عدد 1) ..كما اكّدت الرسالة البابوية (العلمانيون المؤمنون بالمسيح) انه " اذا شاء المؤمنون العلمانيون ان يبثوا الروح المسيحية في النظام الزمني ...فلا يجوز لهم قطعيا التخلي عن المشاركة في السياسة أي عن النشاط الاقتصادي والاجتماعي والتشريعي والإداري والثقافي المتعدد الأشكال الذي يستهدف تعزيز الخير العام، عضويا وعبر المؤسسات" (ارشاد عدد 4) 

5- وفي السياق عينه كان للمجمع البطريركي الماروني كما لشرعة العمل السياسي دعوة الى الموارنة "كي يلتزموا بكل خدمة يمكن تأديتها في قلب المجتمع فيكون حضورهم فاعلا وشجاعا ومثابرا في شؤون الوطن فيقتحموا الحياة العامة بجميع وجوهها "(النص 19 عدد 48) اذ ان مشاركة الموارنة في السياسة تساعد في تفعيل الحياة السياسية عبر تجديد قيادتهم ومحاسبتها والالتزام بالقيَم الإنجيلية وإعادة البريق الى هذه القيَم مذكّرا بان هناك ممارسة مسيحية لإدارة الشؤون الزمنية وان "إدارة الشؤون العامة هي سبيل الى الرجاء لأنها تتجه الى عالم يجب ان نبنيه" (النص 19 عدد50)

 6- ولأن السياسة الصادقة هي الاهتمام بالآخر والالتفات اليه والاستماع الى مشاكله ومساعدته واحترامه ومحبته كما أنها " الطريق الصعب لعيش الالتزام المسيحي في خدمة الآخرين "- بحسب البابا القديس بولس السادس- فأن شعبنا مدعو، في خضم ما يعانيه، الى التمسك بدعوته التاريخية والبقاء في وطنه حيث تقاطع السبل بين الشعوب والأمم، وبين الديانات والحضارات، والى السهر المستمر على عيش المُثل الأخلاقية في المجال العام ، محافظا على كرامة وطنه ومواطنيه، وعاملا على تحقيق مدينة السماء انطلاقا من مدينة الأرض 

7- ان الموارنة مدعوون لا الى الاحتماء بتاريخهم بل الى مواجهة واقعهم ، بعيدا عن آفات التناحر والهيمنة والاستئثار الساكنة في لا وعيهم وفي وعي معظم ساستهم ، والى التخلّي النهائي عن ذهنية الحماية التي تعني عدم النضوج الوطني ، وتعزّز الخوف والانعزال وتعطّل الحرية والابداع ، كما انها تتنافى مع روح المواطنية، و كذلك مع جوهر المواطنة ؛ وان الجهد المطلوب منهم يترجم حرصهم على استكمال البناء مع سائر الشركاء ويثبت حقا "دعوتهم التاريخية “بل المسيحية ، كي يكونوا خميرا في عجين هذا الوطن وسراجا على منارته ، بل على منارات الشرق والعالم

 رابعاً ً: "هو اكثر من وطن..." 

1- اوَلت الكنيسة اهتماماً فائقاً بلبنان ولا سيما مع البابا القديس يوحنا بولس الثاني الذي اعتبر في نداء وجّهه الى أساقفة العالم في 9 أيلول 1989 ان" لبنان أكثر من وطن...انه رسالة ومثال في التعددّية للشرق كما للغرب " وفي نداء سبق ووجّهه الى جميع اللبنانيين في اول ايار1984 قال:" ان لبنان قيمة حضارية ثمينة، وان كل القيَم التي نهض عليها لبنان الامس هي في أساس لبنان الغد وان للمسيحيين في هذه المغامرة المشوّقة دورا خاصا عليهم ان يقوموا به" ولم يكتف البابا القديس بالرسائل والمواقف البابوية اتي أطلقها على مدى حَبريته في سبيل الحفاظ على هذا البلد او "الجبل السعيد الذي رأى شروق نور الأمم وامير السلام"-على ما جاء في ختام ارشاده الرسولي- بل دعا الى سينودس خاص بلبنان وقام بزيارة تاريخية الى وطن الأرز وقّع خلالها الارشاد المذكور في 10 أيار1997 ولم يتردّد البابا بندكتوس السادس عشر في اقتفاء خطى سلَفه حيث دعا هو أيضا الى سينودس للشرق الأوسط وزار على اثره لبنان وكان قدّاسه الجامع في وسط بيروت في 14 أيلول 2012علامة وحدة وتأكيداً جديداً لرسالة لبنان ومع قداسة البابا فرنسيس بابا " الأخوّة الإنسانية" بقي لبنان محور اهتمام الكرسي الرسولي ومساعيه المستمرة لسلامة وطن الأرز ولما يمثله من غنىً حضاري وارض مقدسة 

2- بهذه الذخيرة الكنسية الحيّة يعبر المسيحيون الى المئوية الجديدة وذلك في خضم تحديات جمّة ليست ارهاصات الحضارة المعاصرة سوى واحدة منها ؛ وما يهمّ هو ان تبقى مسيرتهم وفية لذاتها بما يمكّنها من ريادة الحركة التصحيحية والتثقيفية في بيئتها الوطنية والإقليمية ، فتقدم للعالم بأسره نموذجاً مثالياً عن "لبنان الرسالة" و"صاحب الدعوة التاريخية" التي يحرص عليها الجميع وفي مقدمتهم بطاركتنا كالمكرّم البطريرك الياس الحويّك الذي وضع أسس لبنان الكبير بتفويض من كل اللبنانيين ، وخلَفه بطريرك الاستقلال والعمران أنطون عريضة ، والبطريرك بولس المعوشي الذي فتح صالون بكركي لصلاة المشايخ المسلمين ، والبطريرك انطونيوس خريش المجاهد التاريخي في سبيل المصالحة والسلام ، والبطريرك نصرالله صفير رجل الاستقلال الثاني ومصالحة الجبل ، فالبطريرك بشاره الراعي مَن يؤكد باستمرار ان لبنان الرسالة والحرية والحوار لا يُحييه ويبقيه الا اتحاد مواطنيه ولا يحصّنه الا حياده وابتعاده عن صراعات المحاور 

3- ان حوار المسيحية والإسلام الذي شهد تفتّحه ونموه على ارض لبنان وصادف ما صادف من عثرات لم تتمكن منه، ليس حواراً مقيماً في التاريخ او ساكناً في الحاضر انما هو دينامية وحيوية بل روحية تعطي للوطن الصغير معناه وسبب وجوده المستمر، باعتباره نهج حياة يُتيح للناس فرص التواصل والتفاعل مع بعضهم البعض، دون الغاء الخصوصيات التي تظل للكل مصدر غنىً لا ينضب ايمانا بهذا الحوار او نتيجة الأيمان به والأمانة له سالت دماء سخية ، كما سال للدفاع عنه حبرٌ كثير من أقلام مفكرين وباحثين من مختلف المواقع والاتجاهات ، ولا سيما من قبل المسيحيين روّاد النهضة العربية ورسل الحريات في لبنان والمنطقة ، وهم المدعوون ، من خلال اصرارهم التاريخي على التواصل والانفتاح ، الى “تجديد صيغة العيش المشترك انطلاقاً من قراءة متأنية وصريحة لخبرة الماضي...لتنقية حقيقية للذاكرات والضمائر ..."( رجاء جديد للبنان 92) ، والى أن يعيشوا مع مواطنيهم الاختلاف من حيث الانتماء الديني والتساوي من حيث المواطنية و المصير الواحد، وان الكنيسة المارونية" الخبيرة في العيش المشترك" مدعوة الى عيش انتمائها الى الشرق بوعي أبنائها لدعوتهم ورسالتهم

 4- ذاك ما تؤكده الكنيسة المارونية التي ترى ان اهمّ التحديات المتصلة بالشأن السياسي تكمن بان "يبقى لبنان مختبراً للحوار الإسلامي المسيحي في عالم يشهد انقسامات بليغة في هذا المجال ، وفي التضامن مع العالم العربي ، لدحض مَقولة صراع الحضارات التي تضع المسيحية والإسلام في مواجهة بعضهما البعض"(اعمال المجمع البطريركي عدد 36) وتُضيف بان دور لبنان يتأسس على تجربته الفريدة في العيش المشترك الذي هو قدَر اللبنانيين ولكنه أيضا خيارهم الحر..."وان ما يجمع بينهم هو اكثر مما يفرق...وهو الايمان بالله الواحد، الانتماء الى الوطن الواحد، والارتباط بمصير واحد ..انها مسؤولية نحملها معا امام الله ، لأن الله هو الذي دعانا واراد لنا ان نكون معا، وان نبني معا وطنا واحدا وجعلنا في هذا البناء المشترك مسؤولين عن بعضنا البعض"-على ما جاء في رسالة بطاركة الشرق الكاثوليك (معا امام الله، عدد27)

 5- ان "لبنان الرسالة" دعوة للشرق كما للغرب لإغناء حضارة الحوار" ووضع حد لدوّامة العنف التي تتسبب بها التقابليات التي تضع وجها لوجه هويات ثقافية متنوعة"، وان التجديد المستمر لهذه التجربة يشكل ضمانا لمستقبل لبنان واللبنانيين وضرورة للمحيط العربي كنمَط حضاري وترق للعروبة، وكمدخل أكيد لتجديد مساهمة العرب في صنع حضارة إنسانية تكون دعامة أساسية لنظام عالمي يكون حقا جديداً

 6- اما وثيقة الاخوّة الإنسانية التي وقعها في 4 شباط 2019 في دولة الامارات العربية قداسة البابا فرنسيس وشيخ الازهر احمد الطيّب، فهي دعوة صادقة لنا أولا – نحن مسيحيي لبنان والمشرقيين - الى نشرها وعيشها ووضع آليات لتطبيقها ، عبر جهاز مركزي ينبثق عن مجلس بطاركة الشرق وتناط به مهام بحثية وتعليمية وتوجيهية وإعلامية، من شأنها ان تركّز مقوّمات هذه الوثيقة بل هذه "الأخوّة" التي يجب ان ينطلق منها عالمنا الجديد . وما الرسالة الأخيرة للبابا فرنسيس (الكل اخوة ، 3 تشرين الاول 2020) الا لتأكيد البعد المسيحي والمجتمعي والعملي لتلك الوثيقة والدعوة موجّهة تاليا الى الاخوة المسلمين في لبنان وفي بلدان المشرق وكل اصقاع الأرض كي يعوا غنى الحوار، انطلاقا من جوهر الإسلام كدين سماوي يدعو الى التسامح والى كلمة سواء 

خامساً : الدولة المدنية...او تمدين المجتمع 
1- تتداخل في هذا العنوان بل تسكنه مواضيع شتى تعني لبنان وخصوصيته، كالعلمانية والعلمنة، والطائفية السياسية، والديمقراطية التوافقية، والديمقراطية العددية، والحرية الدينية، وعلاقة الدين والدولة.... ولقد جهد باحثون في علم السياسة والدستور والاجتماع في سبيل الإضاءة على واقع "الدولة المدنية" وإبعادها عمّن يعتبرها شعارا ظرفيا او بدلة جاهزة غب الطلب؛ وكان "للمركز الماروني للتوثيق والابحاث " مقاربات غنية حول الموضوع سواء من خلال "شرعة العمل السياسي في ضوء تعليم الكنيسة وخصوصية لبنان" الصادرة سنة 2009 او في كتابه المنشور سنة 2010 بعنوان " مقاربات في الدولة المدنية" وقد اشترك فيه مفكرون من مختلف الانتماءات 

2- في محاولة لإبعاد أسباب العصبية الطائفية ونتائجها المدمّرة على البشر والحجر في لبنان، ومنها الدعوات، الصادقة حينا والملتبسة أحيانا، الى الغاء الطائفية السياسية والدعوات المقابلة، المبيّتة هي أيضا ، الى علمنة شاملة تضع حداً فاصلاً بين الديني والسياسي ، تقدم الدولة المدنية معالجة واقعية تعكس الانفتاح العقلاني على واقع البلاد والعباد، وتعمل على التحرر من عقد تدّعي الاستناد على عقائد دينية ملزمة ، مع الإشارة الى ان واقع الدولة المدنية قديم في تاريخنا، وقد نُسب الى البطل اللبناني يوسف كرم دعوته في 28 شباط 1861 الى “وضع حاجز بين السلطة الروحية والسلطة السياسية...واطلاق الدولة المدنية التي أعطت البلدان المتقدمة راحة ونجاحا" (نقلا عن جريدة النهار في عددها الصادر في 24 آب 2020 – الصفحة الأولى) 

3- ان مفهوم الدولة المدنية يوآلف بين الوحدة والتعددية ، ويوفّق بين التوازنات الوطنية والخصوصيات الدينية ، و يمنع جنوح البعض الى ديمقراطية عددية تستقوي بالواقع الديني السياسي ، المستند الى ظروف إقليمية او معطيات ديموغرافية ؛ كما من شأنه ان يجعل الحياة السياسية مستقلة عن التأثيرات الدينية ، وان يحصر الدين في المجال الخاص ، دون ان يكون له التأثير المباشر على الحياة العامة ، فيترفع المجتمع عن الطائفية والجزئيات المذهبية ، الى ان تحين " الساعة التي يمكن فيها الغاء الطائفية وهي ساعة يقظة وطنية شاملة مباركة في تاريخ لبنان . وسنسعى لكي تكون هذه الساعة قريبة بإذن الله.." – على ما وعد به الرئيس رياض الصلح نواب الأمة سنة 1943

 4- يرى مفكّرون ان "الدولة المدنية هي دولة المدنية، وان هذه الأخيرة لا تخاف على نفسها من الطوائف، لأنها طوائف لا طائفة، فالتعدد يشكل حماية للجميع، وعلى الأخص يجعل العطاء لا الأخذ هو المعيار الصادق بين اللبنانيين...الدولة المدنية هي دولة الانفتاح على الكل، على الطوائف وتعدديتها، على التطوير، والمدني هنا هو عكس المقدس، المُنزل...(منح الصلح " مقاربات في الدولة المدنية ، 24-25) فيما يعتبر رأي آخر " ان الدولة في لبنان مدنية لكن السؤال هو: ما الذي يجعل المجتمع مدنيا، لذا المطلوب تمدين المجتمع... والتمدين ورشة ثقافية دائمة تعمل على انتاج ثقافة الشأن العام من النواحي الحقوقية والثقافية والدينية... والشرط عندنا هو ان تُدرك الأقليات الكبرى حدودها لينتفي التضارب بين التمدين والواقع الطائفي" (أنطوان مسرة، المرجع السابق ذكره ،19-21) 

5- وبالحقيقة فانه رغم اعتبار البعض ان لبنان دولة مدنية طالما انها غير دينية ولا يلتزم دستورها بدين محدّد الا ان مفهوم الدولة المدنية والقبول بها واقعا يتطلبان تركيزها في العقول والمفاهيم العامة، بعد تحضير منهجي وعقلاني ونفسي، فالثقافة السياسية هي التي تساعد في العبور الى هذه الدولة التي تبعدنا عن الطائفية وتجيب على حاجات حاضرنا وتطلعات الاجيال. ولا بد هنا من التوافق على إجراءات عملية مواكبة لهذا العبور مثل نظام جديد للأحوال الشخصية يراعي تطور الأنظمة المماثلة في العالم خصوصا في موضوع الزواج المدني الذي لا يمكن تصوّر مجتمع مدني من دونه، حيث ضرورة جعله الزامياً لجميع المواطنين، بصرف النظر عن معتقداتهم الدينية التي يعود لهم ان يعبّروا عنها اختياريا في زواج يعقدونه امام مرجعياتهم الدينية ، وفق الأصول والشعائر المعتمدة لدى كل منها ويبقى الخوف من ابتكار صيغة لبدعة لا تشبه صيغة العيش الواحد المتنوّع، ولا تلبّي طموح الأجيال في العيش في واحة من الحرية الدينية؛ ولنا من تجربة العلمانية التركية امثولة تدعونا الى ضرورة البناء على الصخر، وتحضير النفوس قبل النصوص، لئلا "يستسلم البلد الى ظاهرة العلمنة متنبها الى ثقافات اليوم مميزا فيها الزرع الصالح من الزؤان" -على ما جاء في الارشاد الرسولي ( رجاء جديد للبنان-عدد15 ) 

6- ولا بد في هذا السياق من الإضاءة على تعليم المجمع البطريركي الماروني حول نظرة كنيستنا الى الدولة المنشودة " التي تؤمّن: - التمييز الصريح حتى حدود الفصل بين الدين والدولة بدلاً من اختزال الدين في السياسة او تأسيس السياسة على منطلقات دينية لها صفة المطلق - الانسجام بين الحرية التي هي في أساس فكرة لبنان والعدالة القائمة على المساواة في الحقوق والواجبات التي من دونها لا يقوم عيش مشترك ... - الانسجام بين حق المواطن الفرد في تقرير مصيره وإدارة شؤونه ورسم مستقبله، وبين حق الجماعات في الحضور والحياة على أساس خياراتها..." (النص 19 عدد 45)

 سادسا ً: في الحكم السليم والحوكمة الرشيدة

 1- شكّلت الحروب اللبنانية و"حروب الآخرين" على ارضنا اهتزازات بنيوية صدّعت وحدة الأرض والشعب ومفهومي الانتماء والمواطنية، وطرحت مسألة الجغرافية السياسية والإدارية والديمغرافية، وكثرت التصوّرات حول الصيغة الفضلى للحكم بعد ما افرزته الأحداث المتعددة الأحجام والأشكال، مع رصد نتائج التناقضات الطائفية المتفجّرة. وكانت فكرة التقسيم سلاحاً يحمله بعض حملة السلاح او بعض ضحاياه وحلاً مطروحا عند تعذر الحلول وتأكّد الدخول الى المجهول، اما تعبير الوحدة او التوحيد الذي تمسك به الكثيرون فلم يخلُ من سوء تفسير والتباسات ومخاوف وتهديدات 

2- حسمت وثيقة الوفاق الوطني الموقّعة في الطائف في 22 -10 -1989- النقاش لصالح نزعة التوحيد او الوحدة، مؤيدةً فكرة "لبنان الكبير" ومنتصرةً لروحية 1943؛ كما جاء في الوثيقة الإبقاء على المناصفة التي لا بد منها للإبقاء على لبنان، وطرحٌ لصيغة متقدمة تحمل في مضامينها وجه الديمقراطية المناطقية والإنمائية وهي اللامركزيّة الإدارية الموسّعة. هذه اللامركزيّة مجرّدة من كل محتوى سياسي او جنوح نحو التقسيم المقنّع بالفدرالية (التي تقف على مشارف التقسيم)، بحيث تم حصرها في اطارها الإداري، مؤكّدة على "وحدة الأرض والشعب والمؤسسات “، ومعتبرة " ان الدولة اللبنانية دولة واحدة موحّدة ذات سلطة مركزية قوية"- على ما جاء في مقدمة الدستور 

3- رأى الباحثون ان تجربة المجالس البلدية ولجان المجتمع المدني ينبغي تحسينها والاستفادة من اختباراتها للإعداد للامركزية الإدارية التي نادت بها وثيقة الطائف، وتحويلها الى إدارة محلية فاعلة ودينامية، موضوعة في خدمة المواطنين، ولا سيما الشريحة الشبابية التي ترغب في العمل الإنمائي خارجا عن الأطر والحسابات السياسية والطائفية التي اثبتت فشلها 

4- ان في نجاح اللامركزيّة نجاحا للسلطة المركزيّة القوية، وللوحدة الوطنية انطلاقا من القاعدة الشعبية - أساس كل وحدة - ومن ممارسة الديمقراطية وتعزيز مؤسساتها الموجودة في كل قضاء، وامتحانا للشفافيّة والنزاهة والدقة التي يجب ان تمّيز الخدمة العامة، خصوصا بوجود هيئات رقابية محليّة، رسمية وشعبية، ومحاسبة صحيحة ومسؤولة .من هنا فان حسن إدارة اللامركزيّة هي وجه من أوجه الحوكمة السليمة التي يرنو اليها اللبنانيون، وهي تأكيد للوحدة اللبنانية بعيداً عن التجزئة والتقسيم ومجال جيد يتيح للمواطنين المشاركة الحرة في إدارة شؤونهم الذاتيّة ويخفف الصراع على السلطة المركزية ويعزز الانماء المتوازن

 5- ان مشروع قانون اللامركزيّة الإدارية الذي اعدّته اللجنة الخاصة المؤلفة بالقرار 166-2012 الصادر عن مجلس الوزراء في 7-11-2012، يمكن اعتباره أساسا صالحا للبدء بتطبيق هذه اللامركزية بعد تفصيله وتوسيع مجالاته الى مجالات أخرى متعددة كالتعليم العالي والاستشفاء والسياحة مثلا ، على ان يتم اقراره وخروجه من مجلس النواب دون تعديلات جوهرية او سياسية ،غالبا ما تهشّم القوانين وتشوّه الغاية من وضعها 

6- وفي إطار الممارسة الديمقراطية التي ينبغي ان ينبثق منها حكم سليم وحوكمة رشيدة، لا بد من الإشارة الى امريَن يعنيان الموارنة بشكل خاص: 
- أَولهما يتعلق بمقام رئاسة الجمهورية الذي يُعتبر رمزاً وقيمة وطنية وسياسية سامية تعلو على منطق الصلاحيات التي اختزلها "دستور الطائف" ، فرئيس الدولة هو رمز وحدة الوطن و"الساهر" على احترام الدستور وهو ، دون سواه، مَن يُقسم اليمين على ذلك ، فرئاسة الدولة ليست موقعاً بين مواقع السياسيين ، وليست جزءاً من منظومة نفوذ ، ولا يمكن مقاربتها من منطلق كميّة الصلاحيات التنفيذية التي تتمتع بها ، انما هي قيادة ودور يعلو على المواقع والصلاحيات ، في سبيل توطيد سلطة المعايير وممارسة دور دستوري وحقوقي ناظم لسلطة المعايير في الحياة العامة (د. أنطوان مسره ، النظرية الحقوقية في الأنظمة البرلمانية التعددية ، ص 333-340 ) غير ان ذلك لا يعني عدم تمكين الرئيس من القيام بدوره التحكيمي الذي يحتاج الى وسائل ينبغي ان يستمدها من الدستور، ومن اتفاق من ارادوه حَكَما حقا، لان لا حكم ولا تحكيم لمن لا يملك الوسائل والقدرة على ذلك. 
- وثانيهما يتعلق بلزوم وضع قانون انتخابي يكون اقرب الى واقع اللبنانيين ويأخذ بالاعتبار نسبية التمثيل وعدالة تقسيم الدوائر او المحافظات – كما ورد في وثيقة الطائف - وصحة مشاركة الطوائف بعيدا عن المشاريع الاحتوائية كالدائرة الواحدة لكل لبنان، او تلك المحصورة طائفيا التي تُفرز نواباً اقرب الى طوائفهم (كالقانون الأرثوذكسي ) ،على ما لهذا القانون من حسَنات رآها فيه العلاّمة الدستوري ادمون نعيم الذي اعتبره " حلاً جازماً لتأمين تمثيل صحيح بالمطلق " ولكنه يستبعده الى اعتماد " الحل الثاني الذي يعطي كلاً من المذاهب الحق ، في مرحلة أولى ، بترشيح من يرغب بتمثيله في كل من الدوائر التي يحدّدها القانون، والترشيح هذا من قبل أعضاء المذهب الذي يحدد اسمين او ثلاثة او اكثر لكل مقعد من المقاعد المخصّصة في قانون الانتخاب للمذهب في كل دائرة من الدوائر"- على ما جاء في محاضرة له في مؤتمر "أي قانون انتخابي للبنان" في جامعة الحكمة في شباط 2003 وكان عنوان مطالعته " المساواة بالتمثيل الصحيح بين المجموعتين الإسلامية والمسيحية في الانتخابات النيابية كما نصت عليها المادة 24 من الدستور"... . ان هذه المساواة ضرورية لمعنى لبنان، وليس من الأكيد ان مجلساً نيابياً خارجاً عن القيد الطائفي - الذي تدعو اليه وثيقة الطائف - هو الحل السحري والمرجو لإزالة الطائفية في المدى الأقرب، خصوصا في صلب الفوضى الديمغرافية التي تجتاحنا من كل اتجاه. كما ان تجربة المجلسيّن التي عرفها تاريخنا الدستوري- ولم تعمّر- لا تحملنا على اعتبار مجلس الشيوخ، بكيفية انشائه ومحدودية صلاحياته وإبعاده عن الدور التشريعي- كما تقضي طبيعته الوظيفية - هو المكان الدستوري الكافي لتمثيل كل المواطنين ، ولا سيما المسيحيين، حيث لا تتأمّن مشاركتهم الفاعلة في التمثيل والرقابة والتشريع الّا من خلال مجلس النواب 

سابعاً: في العدالة وحقوق الانسان 

1- العدالة صفة من صفات الله الحسنى، أقامها في الأرض لتعكس عدله السماوي وتشهد للحق وتعمل على احقاقه، وقد اعتبرت سلطة من سلطات ثلاث ترتكز عليها الدولة فتكون "دولة حق" - لا "دولة قانون" لأن القانون تصنعه الدولة نفسها كما يناسبها ، اما الحق فمن الله - و بدون العدالة لا يستقيم نظام ولا يصمد مجتمع ولا يُكرّم انسان

 2- ولأن دعوة هذه السلطة مستمَدّة من الله، فان عمل قضاتها يجب ان يقرُب من الرسولية والتجرد الى حد الزهد، وان المطلوب، حتماً، نزاهة ومعرفة وشفافية ودقة واتقان، ومساواة تبتعد عن التمييز والاستنسابية والاستسلام او الاستزلام لسلطان السياسة او المال...وكم هو أساسي اختيار القضاة وتنشئتهم المستمرة، وكم هو ضروري وضع الأسس التشريعية والتنظيمية التي تؤمّن استقلالية القاضي وحرية السلطة القضائية في إدارتها الداخلية وفي ضمانات توزيع العدالة وسير المحاكمات و السهر على تأمين حقوق الانسان 

3- لا يمكن للقضاء الا ان يكون لجميع المتقاضين بل للمواطنين بالتساوي، على اختلاف مستوياتهم وطبقاتهم، فلا يستقوي على الضعيف ولا يضعف امام القوي، اذ لا يمكن للحاكم ان يتحكّم ولا ان يتحوّل أصحاب الظلامات الى مظلومين، من هنا ضرورة تفعيل الرقابة القضائية والهيئات التأديبية ذات الصلاحية 

4- وللقضاء المالي والاداري والمحاسبي رسالة تضاهي تلك التي للقضاء العدلي، بحيث انها تجهد من اجل دولة عادلة في قراراتها، وشفافة في ماليتها العامة، ودقيقة في محاسبتها، بعيداً عن الفساد والهدر وإساءة استعمال السلطة، وحرصاً على حقوق الدولة وحقوق المواطن في آن 

5- اما حقوق الانسان فهي ابعد بل أسمى من حقوق الدولة والمواطن، لأنها منحة من الله مع هبة الحياة وليست مكرُمةً من السلطان، ورعايتها من مسؤولية الدولة كما الكنيسة وسائر هيئات المجتمع، لأنها حقوق طبيعية تنطلق من الانسان المخلوق على صورة الله، وهو مَن خلقه حراً ومنَحه الكرامة وزوّده بالقيَم والسلوكيات الأساسية لعيَش دعوته الإنسانية؛ وإذا كانت المطالبة المستمرة بتطبيقها تحمل في جوهرها دعوة مسيحية، فهذا ما يعطي لمسيحيتنا تألقها ولشهادتنا المسيحية اشعاعها 

6- وفي هذا السياق يعتبر الارشاد الرسولي ( رجاء جديد للبنان) "ان حقوق الله وحقوق الانسان مترابطة وان انتهاك حقوق الانسان هو انتهاك لحقوق الله ، وعلى العكس من ذلك فان خدمة الانسان هي أيضا ، نوعاً ما، خدمة الله لان ما من محبة الا ورافقتها في الوقت عينه العدالة "(عدد 15) ومن اجل ان يسود السلام يؤكد ان "احترام حقوق الانسان مطلوبة من السلطات ...وهي العناصر الجوهرية للشرع الطبيعي ، السابقة لكل دستور وكل تشريع دولة وان تحترم خصوصا في توزيع العدالة، وفي الضمانات التي تحق شرعا للمتهمين والمسجونين"(عدد 116) 

7- ولئن كان لمندوب لبنان في الأمم المتحدة الدكتور شارل مالك الفضل الأساس في صياغة الشرعة العالمية لحقوق الانسان سنة 1948 ، فان على لبنان واللبنانيين ان يعيشوا ثقافة هذه الحقوق وينقلوها من خلال التنشئة على قيم التضامن والتسامح والمصارحة وعيش الحقيقة، وان كنيستنا، من خلال تعاليمها ومؤسساتها ورعاتها ومؤمنيها، لمعنية أيضا بالعدالة والشهادة للحق كما كانت عبر تاريخها...وفي الحق حريتنا وخلاصنا 

8- اما الحقوق الاقتصادية والاجتماعية فهي جزء متمم لحقوق الانسان وتهمّ الناس أكثر من اهتمامهم بالحقوق السياسية، لأنها تطال عيشهم واقتصادياتهم وصحتهم وامنهم الاجتماعي وسائر الضمانات التي يرتكز عليها كالمرض والشيخوخة وتعويضات العمل ونهاية الخدمة...وما احوَج اللبنانيين اليها وما ابعدهم عن بلوغها في ظل تقصير سافر للدولة الراعية ومحاولات حميدة وان غير كافية للمؤسسات الكنسية ان الواقع الصعب الذي نعيشه ومجتمعنا يدعونا الى العمل على جبهتيَ الدولة والكنيسة من اجل انغماس أكثر في الشأن الاجتماعي، فالكنيسة لا يمكنها ان تتخلّى عن دورها الاجتماعي خصوصا عندما يتعطل دور الدولة الراعية كما الحال اليوم ... فالأم تظل ساهرة وحاضرة حين يغيب الآخرون 

ثامناً : في التربية والتعليم...والانسان 

1- تشكل الرسالة التربوية للكنيسة جزءاً لا يتجزأ من رسالتها الروحية ، ولطالما تميّزت الكنيسة المارونية في تاريخها وحاضرها بإحلال التربية والتعليم في أولوية اهتماماتها، فكانت المدرسة مساحة واطاراً ومحرّكا ً لتلك الرسالة ، وكان الانسان موضوعاً ومحوَراً وهدفاً لها، وكانت تعاليم آبائها ومقررات مجامعها رائدة وفاعلة في هذا المجال، حسبنا منها المجمع اللبناني (1736) الذي أوصى بإلزامية التعليم وبتعليم المرأة ، وكان قد سبقه انشاء مدرسة حوَقا (1614) وتبعه انشاء مدرسة عين ورقا (1789) وسواها فيما بعد ، وهل يغفل التاريخ دور المدرسة المارونية في روما   ( 1584) التي مدّت الكنيسة بخيرة رجالاتها وكانت جسر عبور ثقافي وحضاري بين الشرق والغرب 

2- ليس عبثا ان يكرّس المجمع البطريركي نصيَن هما الأطول في نصوصه الثلاثة والعشرين لمقاربة موضوعيَ التربية والتعليم العالي، وقد اضاءا على دور الكنيسة التاريخي في هذا الحقل وعلى سعيها الدؤوب في البناء الإنساني، وفي التربية على القيَم الانجيلية وعلى تعزيز الالتزام بالحياة المسيحية، والانتماء الصادق الى المجتمع والأرض، وعيش مبادئ المواطنية الصالحة ولقد كانت ولا تزال مدارس الكنيسة مفتوحة لكل المواطنين، بدون تمييز، همها نوعية التنشئة وجودة التعليم وتميّز المتعلّمين 

3- تواجه الرسالة التربوية تحديّات شتى أهمها المعاناة الاقتصادية التي ترزح تحتها المؤسسة كما المعلّم واولياء التلامذة والطلاب، دون اغفال تحديّات أخرى كانت ولا تزال مُحدقة بالمؤسسات التربوية والجامعية منها، على سبيل الإشارة، قدرتها على صياغة التربية الشاملة ، وعلى انجاز التعليم النوَعي بجودة واتقان، وتحقيق التعلّم للجميع ، وتأقلم التعليم مع الحداثة ومتطلبات التكنولوجيا السريعة التطور ...

 4- ولعلّ الأهم من كل هذه هو السؤال المطروح باستمرار على ضمائرنا: هل نجحت مدارسنا وجامعاتنا في عيش الشهادة المطلوبة منها؟ ام انها كانت في أحيان كثيرة سبب عثرة لكثيرين؟ واستطرادا، هل لا تزال هذه المؤسسات جاذبة لغير المسيحيين؟ وهل انها تعيش القيّم المسيحية في أدائها وادارتها وتصرفات مسؤوليها؟

 5- اما الجانب المضيء من هذه الرسالة فليس لأحد انكاره او التنكر له، حيث لعبت مدارسنا وجامعاتنا دوراً أساسياً في تطور مجتمعنا ووطننا، وفي اغناء انساننا روحياً وادبياً وثقافياً وعلمياً، كما كان لحضورها الى جانب المحتاجين من طلبتها وقعٌ حميد ونفعٌ اكيد، وقد عاشت ازماتهم وآلامهم وواكبت نموّهم بفرح رغم صعوباتهم، وأعدّتهم لآفاق جديدة تنتظر مستقبلهم وتفاعلت مؤسساتنا مع سائر مكوّنات الوطن سواء باستقبالها لمتعلّمين غير مسيحيين ام بتعاونها مع جامعات غير مسيحية، في لبنان والخارج، وقيامها بأبحاث ومؤتمرات مشتركة مفيدة لكل الناس، مع احترامها الدائم للاختلافات وتناغمها مع الخصوصيات، ومع التربية الدائمة على المواطنية والعيش المشترك؛ والى ذلك، فان التزام جامعاتنا بالشأن العام أمر يزداد الحاحا ليس للوطن وللمجتمع فحسب، بل للطلاب وسائر الفئات الشبابية المدعوّة الى هذا الالتزام

 6- لقد دعا الارشاد الرسولي (رجاء جديد للبنان) مدارسنا الى وضع طاقاتها في خدمة الجماعة المسيحية أولًاً، ثم في خدمة مجمل الوطن، مع التذكير بانه ينبغي ان يبرز دائما البعد الديني للتعليم الكاثوليكي، وبأن أسلوب معالجة المواد الدنيوية واقتراح رؤية للإنسان وللتاريخ ينيرها الايمان والارتباط بالكنيسة..."مشجعاً المدارس على إعادة النظر في اقساطها (عدد 107) هذا الهاجس الاقتصادي برز أيضا في توصيات المجمع البطريركي الماروني الذي دعا الى التوفيق بين "جودة التعليم وخدماته" والحرص على الا تؤول الازمة الاقتصادية الى" العجز عن خدمة الفقراء" داعياً الى اتخاذ التدابير التي من شأنها تأمين “التعليم العديد من الأولاد في جميع انحاء الوطن، من دون تمييز او تفرقة" واتخاذ التدابير التي تجعل مؤسسات الكنيسة التعليمية في متناول الجميع وبالأخص أفقرهم حالاً "(نص 16 عدد 41)

 7- اما جامعاتنا فان ما تحتاج اليه هو التنسيق الدائم " فتتضامن القوى الفاعلة وتسمح لبعض المراكز بان تزيد في اختصاصها لخير المؤمنين...ومن المهم ان تتشاور المعاهد الجامعية المختلفة فتقدم مقترحات مشتركة، وعند الاقتضاء تتجمع وتكل الى بعض المؤسسات اختصاصاً جامعياً معيناً...منعا ًللهدر في الأشخاص والطاقات والوسائل المادية" (ارشاد عدد 108) والمطلوب ان تتذكّر مؤسساتنا التعليمية ان هويّتها كاثوليكية وان" هدفها ضمان الوجود المسيحي في عالم الجامعة بالعمل، في ضوء الايمان الكاثوليكي، على تعزيز فكر مسيحي بمستوى اكاديمي رفيع في مختلف قطاعات المعرفة البشرية، ونمط من التعليم يرتكز على الثقافة المسيحية...وعليها ان تتنبّه دوما للحفاظ على طابعها الكاثوليكي في ميزاته الأساسية..."(ارشاد عدد 75) اما المجمع البطريركي فقد دعاها الى الابتعاد عن شرك التزاحم الذي يبعدها عن روح رسالتها الكنسية ويجعلها تكرر ذاتها فلا تبلغ ارقى المستويات الاكاديمية كما يدعوها الى التشاور والتعاون لتجسيد سياسة جامعية موحّدة (نص 17 عدد 38 -39)...... وكم لا تزال المسافة التي تقربنا من هذه الدعوات بعيدة 

8- اما الجامعة اللبنانية التي استفاض النص المجمعي في عرض المشاكل التي تعترض تقدّمها، فكانت وتبقى موضع اهتمام كنسي ومجتمعي نظرا لأهميتها الوطنية والاجتماعية ولحاجتها الدائمة الى الاهتمام والرعاية، وان من الضرورة بمكان تعزيز هذه الجامعة وتعزيز حضور الكنيسة فيها (نص 16 عدد 62) كما ندعو مع اباء المجمع الى تأمين المجمّعات الجامعية والى تحقيق لا مركزية جامعية واحترام استقلالية الجامعة الوطنية، بعيدا عن التجاذبات وتقاسم الحصص السياسية والطائفية، التي تتعارض مع منطق العمل الجامعي ولا تنسجم مع اهداف جامعة الوطن وادوارها الاكاديمية والبحثية . ان لبنان بحاجة الى إعادة تأصيل التربية وتأهيل مؤسساتها وإعطاء الثقافة الإنسانية والذاكرة الوطنية والثقافية والمجتمعية الدور الفاعل في الإعداد لمستقبل الامة؛ وإذا كان لكنيستنا، من خلال مؤسساتها المدرسية والمهنية والجامعية، دور مؤسس وفاعل في هذا المجال الا ان الدور الأساس يبقى للدولة التي عليها واجب تأمين مجانية التعليم وتعميمه واعلاء مستواه وضرورة دعم القطاع الخاص الذي يتولى هذه الخدمة العامة 

تاسعاً : في الاقتصاد.... والأرض.... والإنتاج 

1- شغلت مواضيع الاقتصاد، والأرض ، والانماء ، والإنتاج ، والاجتماع حيّزاً واسعاً من اهتمامات اللبنانيين بل باتت هي همهم الأول في هذه الأزمنة الشديدة الاضطراب ، التي تشهد فيها البلاد عجزا ماليا بلغ حافة الافلاس وقد أصابت نتائجه معيشة الناس في الصميم، خصوصاً بعد التراجع غير المسبوق للنقد الوطني، وتفاقم الدين العام ، والخلل في المالية العامة ، والعجز في ميزان المدفوعات، والتخلّف عن ايفاء الديون، وتراجع ثقة الدائنين والمودعين بالخزينة كما بسائر المؤسسات المالية والمصرفية ، وهذا ما حمل الكثيرين على نعي النظام المصرفي الذي كان العمود الفقري للاقتصاد ، والواجهة المضيئة لموقع لبنان المالي ولنظامه الاقتصادي الحر 

2- ليس لهذه المذكّرة ان تستفيض في تحليل أسباب ما بلغناه وفي توزيع المسؤوليات والاتهامات، حسبها الملاحظة ان أوضاعا كهذه لا يمكنها الا ان تؤدي بالبلاد وبالمجتمع والشعب الى المصير الأسود، وان لا بد من حلول لإيقاف التدهور، تمهيدا لنهوض دونه شروط غير ميّسرة وغير مضمونة، بغياب خطط جاهزة ودعم دولي غير متوفر لأكثر من سبب، واشد الأسباب ايلاما الفساد المستشري في جسد الادارة الذي اودى أيضا بثقة الناس والمجتمع الدولي بالمسؤولين 

3- لم تشهد موازنات الدولة وخزينتها وادارتها العامة عافية تساعد على النمو في شتى المجالات، فالحكومات المتعاقبة منذ عقود لم تقم بسياسات ترمي الى "تعديل الاختلالات الكبيرة التي كان يعاني منها لبنان" – كما أوصى بذلك الاب لويس لوبريه مع بعثة (ايرفد) منذ مطلع ستينيات القرن الماضي- ولم تقدّم الإدارة الحكومية خططا طويلة الأمد لتحويل المجتمع ، وتطوير الإنتاج، وتجديد الهيكليات، ووضع سلّم الأولويات ، حتى انها افتقرت الى الحد الأدنى من الوسائل اللوجستية الأوّلية لذلك كالإحصاءات وبنك المعلومات وما الى ذلك... 

4- ولئن نجح لبنان في منتصف القرن الماضي في ان يكون مركز خدمات ووساطة مالية وتجارية تقودها رأسمالية غير منضبطة ادخلته الى عالم الاقتصاد الريعي الجاذب ، الا ان سلبية ذلك كانت إضعافا لدور القطاعات الإنتاجية بل تهميشها، وإضعاف القطاعات الأساسية في اقتصاديات الأمم ، كالصناعة والتجارة ومنها انشاء الشركات والمؤسسات المتوسطة والصغيرة ، وكذلك الزراعة التي كانت تأتي في اسفل سلم الاهتمامات سواء في الموازنات العامة ام في السياسات والمخططات الهادفة الى حماية الأرض وتنشيط هذا القطاع لما يحمل من وعود ...ولما يحمل خاصة من رمزية معيّنة تعنينا اولا 

5- وبالفعل فان موضوع الارض جوهري بل وجودي ولاهوتي عند الموارنة لأنه لازم نشأة المارونية ومعاناتها وصمودها وانتشارها على مدى جغرافية الوطن، وواكب تعب فلاحيها ونضال مقاوميها وارتوى بدماء شهدائها، ولأن " مسيرة الموارنة لا تفهم الا متى قرأت الحيطان والزيتون والدوالي والدرب والحجارة ...والارض هي شجرة عائلة المارونية ..." (من عظات الاب ميشال الحايك في صوم 62) وتقديراً لهذه العلاقة ولضرورة تفعيلها خصّص المجمع الماروني نصاً كاملا عن الأرض مؤكداً قيمة الأرض الكتابية منذ إبراهيم ووعود "الأرض الجديدة" مع تجّسد الرب ... ومذكّرا بان الأرض قد أسهمت في تعزيز الطابع الإنساني لحياتنا وتلقيحه بميزاتها الخاصة، وبان الشخصية المارونية هي بنت الأرض. ونتساءل مع اباء المجمع بمرارة:" هل يعقل ان يتخلّى الموارنة عن ارضهم وحضارتهم وعن الرسالة التي خصّهم الله بها في هذا الشرق؟ وهل يقدر الموارنة ان يحافظوا على تمايزهم اذا ما تخلّوا عن ارضهم ومعالم تاريخهم؟ (نص 23 عدد 24) 

6- انطلاقا من هذه اللوحة الوجدانية ومن قلق التساؤلات ومشروعيتها، لا بد من العمل على ما يعيد للأرض اعتبارها وفائدتها الإنتاجية حيث لا بد من: - اعتبار الملكية ارثا مقدسا تهدّدها المصالح المختلفة الساعية الى تملك الأرض او السيطرة عليها - وضع سياسة زراعية تدعم الإنتاج والمزارع - تشجيع الاختصاصات والخبرات في علم الزراعة وتقنياتها والسعي الى انشاء مهنيات زراعية في كل المناطق مع اعتماد التخصص والتخصيص بما يناسب طبيعة كل تربة وبيئة كل منطقة - السعي الى اكتساب خبرات جديدة وترشيد النشاط الزراعي وانفتاحه وتنويعه - الدعوة الى الاهتمام بالإنتاج وبالتصنيع الزراعي - تحريج المناطق وزرع غابات وخلق محميّات للحفاظ على البيئة - الحاجة الماسة لأن تبادر الكنيسة، من جديد، الى خلق نظام شراكة لأوقافها، محدّدا في الشروط وفي الزمن، يعطي فرصة حياتية متجددة لأبنائها المحتاجين ويُبعد عنهم كأس الهجرة الذي يتجرّعه شبابنا مكرَهين 

7- ان كنيستنا ، في غياب حكومة جدية وقادرة، مدعوّة من جديد الى قيادة حملة "استعادة" الأرض وهي المالكة الكبرى والقادرة على وضع استراتيجية تنموية شاملة ، وتطوير الشراكة ، وإعادة احياء ثقافة "العوَنة"، وتحديث قوانين الأوقاف ، وحث مجتمعها -الفلاّح أصلا - على الانخراط من جديد في الاقتصاد الُمنتج وابرز مقوّماته الأرض

 8- يبقى ان موضوع الأرض – على أهميته - لا يمكنه ان يحجب الاهتمام بالأدوار الحديثة التي تعطي للاقتصاد الوطني مكانة على ساحة الاقتصاد العالمي واهمها " اقتصاد المعرفة"، والتواصل، وخدمة التكنولوجيا ووسائل الاتصال المتطوّرة، واقتصاد الخدمات على اشكالها كالسياحة والتعليم والاستشفاء، ولنا من جامعاتنا وطاقاتنا البشرية ومراكز ابحاثنا إمكانات واعدة تنتظر ابتكارات وافكارا خلاقة وتنظيما ومواكبة ودعما لا بد منه 

عاشراً: ازمنة الرجاء 

1- تندرج مسيرتنا نحو المئوية الجديدة في قلب مسيرتنا المستمرة نحو “الأرض الجديدة" التي أرادها لنا الرب ...ولا فصل لأحداهما عن الأخرى طالما ان الزمن الذي صوّره فلاسفة الاغريق وحشا يفترس أولاده قد أصبح مع المسيح واعداً بل شاهداً لمحبة الله، عاملاً على تقديس الانسان وسبيلاً لخلاص الناس . من هذه القراءة الايمانية للمستقبل انطلقت قراءتنا لواقعنا ومقارباتنا للوطن الذي نرنو اليه، من قلب كنيسة تحتضن جميع الأجيال، تواكب نموّهم، تعيش تطلعاتهم وتصنع لهم، وبهم ومعهم الرجاء

 2- شكّل لبنان- الوطن إطار هذه المذكرة ومحوَرها، انطلاقاً من كوَنه ارض المارونية الأولى والنهائية، وقبلة انظار الموارنة أينما كانوا، و "ارض ميعادهم"، وهو المَعين الذي يمدّ الانسان بالحرية، أساس كل ارتقاء انساني ومجتمعي، والقاعدة الراسخة للبنان الرسالة والحوار المنفتح.... وقد جاءت مطالعاتنا لواقعه وللمرتجى صرخة من الأعماق، لا تدّعي استنباط حلول جديدة بل تستذكر ما تم وضعه وهو لا يحتاج الا الى تصميم وإرادة تحقيق

 3- اما الكنيسة "الام والمعلمة" والمُلهمة، التي تشكل لنا وطناً روحيا ًودينياً وثقافياً، فهي حاضرة في هذه المذكرة من خلال تعاليمها ومواقف رعاتها، كما من خلال مؤسساتها، على اختلافها، وثمارها، على تنوّعها. من هنا محوَرية وجودها في حياة مؤمنيها أولاً، ومواطنيها تالياً...ومن هنا فان حرصنا عليها هو حرص على ايماننا وعلى انتمائنا اليها والى" هذه الأرض التي وطأتها قدما السيد المسيح وجعلتها ارضا مقدسة"(ارشاد، عدد 8) وليست الصورة الفضلى التي نريدها لكنيستنا الا انعكاسا لتوقنا الى الكمال والجمال اللذين أرادهما الرب لعروسه 

4- عالجت النصوص المجمعية المتعددة كل المواضيع التي تهمّ الكنيسة وشعب الله، وليس لمذكرة او وثيقة ان تقدّم افضل مما قدمته وثائق المجمع الفاتيكاني الثاني ، والإرشاد الرسولي ، والرسائل البابوية حول لبنان وكنيسته، ولعل اعمال المجمع البطريركي الماروني ، بملفّاته ونصوصه وتوصياته وآليات تنفيذه ، هي الأكثر احاطةً وادراكاً بحاجات كنيستنا في زمن الحداثة وفي ازمنة الانتظار التي نعيش وقد تابعت كنيستنا باهتمام مقررات المجمع وتوصياته، فحوّلت ما أمكن منها الى نصوص قانونية أُدرجت في صلب الشرع الخاص للكنيسة المارونية، وعهدت الى أجهزة فيها المتابعة والسهر على إيصال تلك المقررات والتوصيات الى غايتها المتوخاة 

5- غير ان هذه المَهمّة، المُهمّة، تتطلب مثابرة وتفعيلاً وورشاً مستمرة توازي او تفوق ورش الاعداد والتحضير زمن البدايات، وتتطلب وعياً وتوعية، وثقافة وتثقيفاً في مجتمعنا وجامعاتنا والمعاهد، كما في الرعايا والمنظمات وسائر المؤسسات الكنسية، بغية عيش هذا التجديد الذي ارادته الكنيسة في كل مجالات الحياة، انطلاقاً من داخلها كما من الداخل اللبناني، ووصولاً الى كل ماروني مدعو الى ترسيخ روح الأخوّة والى الشهادة لها حتى اخر اصقاع الأرض من هنا دعوتنا الملحّة الى انشاء لجنة بطريركية عليا تخطط وتوجه وتتابع اعمال لجان، ابرشية وفرعية، مهمتها الرصد ثم متابعة تطبيق مختلف توصيات الارشاد الرسولي والمجمع البطريركي من قبل المؤسسات والأشخاص المعنيين. وان أعضاء رابطة قدامى الاكليريكية حاضرون للمشاركة في مثل هذه المهام

 6- هذه اللجنة تُضاف الى سواها من اللجان او المكاتب البطريركية وتُدعى جميعها الى السير معا نحو الأهداف، فيتألق من خلالها الوجه التنظيمي والمؤسساتي لكنيستنا، برعاية السيد البطريرك - الرئيس والأب - ومعاونة مجلس اعلى من علمانيين ورجال دين، فيوفّر لصاحب القرار قاعدة المعلومات وأدوات التخطيط والتنسيق وسُبل التمويل .انه  الاشعاع النبوي الذي نريده لكنيستنا في عالم تشتدّ حاجته الى شهادة كنيسة يكون المسيح محوَرها واداؤنا المميز وتضامننا سبيلها اليه

 7- اما مجالات الإصلاح داخل الكنيسة فواسعة وقد سبقت الإشارة الى بعضها في سياق هذه المذكّرة، غير انه لا بد، أيضا، من ذكر ما يعني الكنيسة مباشرة، والأبرز:

 أ - دور العلمانيين ومشاركتهم في حياة الكنيسة وفي قراراتها، وفي جعل الحركات الرسولية خلايا حيّة تعطي رسالة الكنيسة دينامية متجددة، وتستفيد من طاقات الشبيبة وافكارهم واندفاعهم ورغبتهم الصادقة في الاندماج في رسالة الكنيسة. ان هذه الإمكانات تحتاج الى ثقة وتفعيل ورعاية من قبل المسؤولين الكنسيين ولا سيما المعنيين بالتعاطي المباشر مع العلمانيين 

ب- إيلاء العائلة الاهتمام الذي تستحقه، فهي "الكنيسة البيتية " التي تستدعي دعماً على مختلف المستويات ولا سيما الروحية والتربوية والاقتصادية، وكذلك تشجيع قيام العائلات المارونية الكثيرة العدد، ورسم خطة اقتصادية اجتماعية تساعدها على النمو وعلى الشهادة للإنجيل وللقيَم ، وتواجه التحديات المتعددة المصادر والاشكال التي تهدّد العائلة اليوم 

ج- إتاحة فرص العطاء للمرأة وهي مصدر الحب والتضحية ، ومثال الدقة والمثابرة ، وقد اظهرت من خلال المسؤوليات التي تعهد اليها كل النجاح والتفوّق ؛ ولعل في تعاليم البابوات - وابرزها رسالة " كرامة المرأة ودعوتها " للبابا القديس يوحنا بولس الثاني ، ودعوة قداسة البابا فرنسيس ومبادراته في إحلال المرأة في موقع القرار ، وفي تجربة مكتب رعوية المرأة التي اطلقها صاحب الغبطة في بكركي ثم امتدّت الى معظم الابرشيات المارونية - مثالا على اهتمام الكنيسة وحافزاً للآخرين من اجل تفعيل دورها في الكنيسة والمجتمع 

د- استكمال ورشة تحديث القوانين الكنسية عامة، ومنها خصوصاً قوانين الأحوال الشخصية وانسجامها مع القانون بل مع النظام العام، وافساح إمكانية تجاوبها مع متطلبات الدولة المدنية ، والنظر أيضا في واقع القضاء الكنسي في مجاليَه ودرجتيَه ، ولا سيما في هيكلية المحاكم وسير المحاكمات وتنفيذ الاحكام ، وفي عمل القضاة وسلوكهم ، وإزالة الشوائب التي قد تحمل شكوكاً يمكن الاستغناء عنها 

ه- تعزيز التواصل مع الموارنة المنتشرين من خلال تفعيل المؤسسات المعنيّة والعمل على تفاعل مثمر بين الجناحيَن، رعويا واجتماعيا واقتصادياً وثقافياً، وسياسياً أيضا بحيث يكون موارنة العالم سفراء القضية المارونية واللبنانية، وعاملين – من مواقعهم- على حمل مشعالها وابقائها مشعةً على منارات الأمم  ، ولا ضيَر في هذا المجال من إعادة النظر في "الرابطة المارونية" (او في المؤسسة المارونية للانتشار)، في أهدافها كما في هيكليتها وتنظيمها، بحيث يكون لها فروع فاعلة في معظم بلدان الانتشار، تشكل نوعاً من "اللوبي الماروني" العامل ببركة الكنيسة، من اجل اتخاذ المواقف الأساسية بالنسبة للطائفة وتنسيقها على مستويي لبنان والعالم 

و- الى الأدوار الأساسية المنوطة بالجامعات المارونية ومراكز الدراسات وفي طليعتها "المركز الماروني للتوثيق والأبحاث"، يقتضي إعطاء الثقافة المارونية مكانة تليق بالتراث والأرشيف الساكن في المكتبات الكنسية والعلمية العالمية العريقة ، مع فائدة انشاء مكتبة مارونية مركزيّة تضم كل مؤلّفات الموارنة وما كُتب عنها ، وكذلك الاهتمام بالفن الكنسي وبإقامة معارض دائمة للكنوز المارونية الموجودة في الكنائس والاديار ، ومعارض جوّالة في العالم ، مع تبادل الخبرات ودعم محترفات الفن الكنسي الماروني- على ما أوصى به المجمع الماروني

 ز– اما ختام هذه العناوين – وقد يكون أهمها وأكثرها الحاحاً - فيتعلق بالتنشئة الكهنوتية التي ركّزت على ضرورتها الرئيسية تعاليم الكنيسة منذ ما قبل المجمع الفاتيكاني الثاني الذي كرّس قرارا مجمعيا لهذا الغرض، حتى المجمع البطريركي الماروني الذي ادرج الموضوع في صلب النص السابع من اعماله، ولا غرابة ان تحظى تربية الكاهن بهذا الاهتمام من الكنيسة ، فهو محرّك رسالتها ، واحدى علامات حضورها في العالم ، وهو المؤتمَن على حياة الناس الروحية وعلى نموّهم الخلاصي ، وعليه تترتب مسؤولية مسيحية وكنسية وضميرية امام الله والكنيسة والتاريخ حيال ما يشهده مجتمعنا اليوم من حالات مقلقة ومتعثرة يواجهها او يتسبّب بها عدد من الكهنة، يصبح التركيز على تنشئة الكاهن امرا شديد الالحاح، فالدعوة الكهنوتية هي حقا "في اناء من خزف" ، تعترضها بل تهدّدها مخاطر جمّة ، مما يتطلب من الزارع عناية مكثفة تبدأ مع نمو الغرسة أي منذ المدرسة الاكليريكية الصغرى المسؤولة عن "انماء بذور الدعوة وتمييزها وتبيان علاماتها"- على ما ورد في القرار المجمعي الصادر عن الفاتيكاني الثاني حول التنشئة الكهنوتية (عدد3) ان اغلاق المدرسة الاكليريكية الصغرى التي قدّمت للكنيسة المارونية خيرة كهنتها واساقفتها وبطاركتها، ونخبة من العلمانيين الملتزمين والمحصّنين بالفضائل المسيحية، من شأنه ان يغيّر وجه التربية الاكليريكية وربما وجهتها أيضا ؛ فالاكتفاء بقبول المدعوين الى الكهنوت اعتبارا من عمر الشباب، واكتر احياناً، يحدّد الكميّة دون ان يضمن دائما النوعيّة ، رغم ان قديسين وكبارا في الكنيسة لم يمرّوا بالإكليريكية الصغرى؛ فالكاهن "النازل" الى الخدمة بعد تجربة حياتية قد تكون مثمرة واحيانا لا، يختلف عن الكاهن الذي نمت دعوته في اطار طبيعي سليم.... ومع ان الدعوات المتأخرة لم تعد اليوم هي الاستثناء، فان الاكليريكية الصغرى – او الوسطى- التي كانت منذ القرن السادس عشر مع المجمع التريدنتيي هي المكان الطبيعي لنمو الدعوة ونجاح الرسالة، تبقى، برأي من نهلوا منها القيَم والمعارف، التربة الفضلى لنمو الزرع الصالح وإعطاء الثمار المفيدة للكنيسة والمجتمع .اما التنشئة المستمرة للكهنة التي نادت بها النصوص فلا بد من تركيزها وتعزيزها في أكثر من اتجاه وعلى أكثر من مستوى، بحيث تُبقي خادم الكنيسة على خط العلاقة الوثيقة والدائمة مع الله، وعلى خط التواصل المُثمر مع الكنيسة، بسلطاتها ومؤمنيها، ولا سيما إزاء الحداثة ومتطلبات الزمن الحاضر والآتي... 
وفي النهاية ومع بداية المئوية الجديدة، فإن للأزمنة علامات، وللعلامات معاني، وللمعاني قراءة بل قراءات... وإذا كانت ازمنتنا الوطنية والكنسية هي ازمنة رجاء، تتخطى حدود الخوف والقلق، ومحدودية الحاضر وظرفيته، فذلك لأن في الرجاء قوة داخلية، ذاتية، تقيم فينا... تماما كما في تلك السفينة التي حملت في خوف الرسل قوة المخلص فلنعبر كلنا - كنيسة ووطنا ومجتمعا وافرادا – ولتتحالف جهودنا، انطلاقا من الهيئات والمؤسسات والمجالس المارونية المعنية، حاملين تراثا مزهوا بالقيَم والمنجزات، وإرثا مثقلاً بالتجارب وبعض الخيبات، وليكن عبورنا الى المئوية الجديدة تجديداً حقيقياً لنا جميعا ، ونحن مؤمنون بوعود الرب، مَن " سيُرسل روحه ويجدّد وجه الأرض"