السبت 18 حزيران 2011 - Aljoumhouriya
الطائفيّة السياسيّة موجودة لأنّ هناك طائفيّة حضاريّة وثقافيّة وتربويّة واجتماعيّة واقتصاديّة وماليّة وأمنيّة وعسكريّة. فلماذا يُطالِب البعض بإلغاءِ طائفيةٍ واحدةٍ، والإبقاءِ على الطائفيّات الأخرى؟ خصوصاً وأنَّ الطائفيّةَ السياسيةَ هي المَصَبُّ، والطائفيّات الأخرى هي النَبعُ الدافِق. الطائفية السياسية هي المِصباح المضيء، والطائفيّات الأخرى هي المولِّد الذي يغذّيه بالتيّار الكهربائي.
وإذا كانت كلُّ هذه النوعيّات الطائفية قائمة في مجتمعِنا، فلا تكون الطائفية إذن عارضا مرحليّا، بل حالة أصيلة وقديمة في الشخصيّة اللبنانية التاريخيّة. وإذا كانت الطائفية مُكَـوِّنـا أساسيّـا في تاريخِنا، فهي مرتبطة بالحالة الدينيّة في الشرق، نظرا للتواصل الطبيعيّ بين لبنان ومحيطِه. وإذا كان اختلاف التفسير الفلسفيّ للألوهيّة و/أو الصراع على السلطةِ ـ وقد تَخطّاهُما الزمن ـ أَفرز الطوائف والمذاهب، فالاضطهاد الدينيّ ـ وهو مستمر ـ ولَّد الطائفيةَ السياسيةَ بمفهومِها الكِيانيّ الشموليّ، لا بمفهومِها اللبنانيّ المؤقَت.
ثلاثة استنتاجات مِمّا تَقدَّم: أوّلاً: لا فائدة من إلغاء الوجه السياسي للطائفية من دون معالجة جوهر الطائفية المتعدد الأوجُه؛ الجُزء لا يُلغي الكلّ. الثاني: لا قيمةَ لإلغاء الحالة الطائفية العامّة في لبنان وحدَه ما لم يُعتَمد نظامُ الحِياد اللبناني، وإلّا ستسقُط العلمنة بفعل التأثير المتبادَل بين المكوِّنات الاجتماعية اللبنانية والحالات المذهبيّة في الشرق. ثالثا: من الصعب الانتقال إلى العَلمنة من دون الانتقال إلى الحالة المواطنيّة. ومن المستحيل بلوغ الحالة المواطنيّة من دون الولاء المطلَق للوطن والاتفاق على هُويّتِه ودوره ورسالته. وهو أمرٌ لا يزال يَعتريه اختلاف والتباس وغُموض وخُبث متبادَل.
اللافت حاليّا في إلغاء الطائفية السياسية أنّ المشروع الجديد طرحَه السياسيّون قبل المفكّرين. هذا لا يعني أنّ السياسيّين الحاليّين في لبنان علمانيّون، بل أنَّ الطرح هو وليد رغبة بالهيمنة وليس وليد دافع إصلاحيّ. نكون واهمين إذا اعتقدنا بأنّ هذه الطبقةَ السياسيةَ قادرة على عَلمنة المجتمع، ما دامت الطائفيّة، معطوفة على الفساد، هما الرأسمال الأساسيّ لغالِبيّة أركانِها.
واللافت أنّه قبل أن يطالِب سياسيّون مسلمون ويساريّون حديثا بإلغاء الطائفيّة السياسيّة، رفض سياسيّون مسيحيّون قديما اعتمادَها أصلا. وثائق المجلس النيابي تَـكشِف أنَّ النائب الماروني، ابنَ فتوح كسروان، جورج زوين، اعترض على المادّتين 95 و 96 من الدستور اللبناني الأول لدى مناقشتِه في 22 أيّار سنةَ 1926، لأنّهما تكرِّسان الطائفيّةَ السياسيّة. وتكشِف هذه الوثائق أيضا أنّ إميل إدّه طالب أثناء مناقشة حكومة الشيخ بشارة الخوري في 14 أيّار سنةَ 1927 "بوجوب القضاء على القاعدة الطائفيّة في توزيعِ المناصب ما دامت حقوق جميعِ الطوائف محفوظة ومحترَمة في البرلمان، لأنّ التقـيُّد بالطائفيّة في التوظيف يَقتُل الأهليّةَ ويَقضي على المساواة بين المواطنين".
ولمّا وضعت حكومة الاستقلالِ سنةَ 1943 بيانَها الوزاري الأوّل، تخطَّت إلغاء الطائفيّة السياسيّة، ودعت إلى إلغاء الطائفيّة ككلّ مستقبَلا، حيث ورَدت في البيان الجملة التالية: "إنّ الساعةَ التي يُمكن فيها إلغاء الطائفيّة هي ساعة يَـقَظة وطنيّة شاملة مبارَكة في تاريخ لبنان، وسنسعى لكي تكون هذه الساعة قريبة بإذن الله". ومُذ ذاك لم يأذن الله".
أمّا في اتفاق الطائف، فجاءت صياغة المـــادةِ 95 من الدّستورِ ملتبِسة؛ ففيما تذكر المادّةُ أنّ "على مجلس النّوّاب اتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق إلغاء الطّائفيّة السياسيّة وفْـق خُطّة مرحليّة وتأليف هيئة وطنيّة"، تُحدِّد المادة نفسها لاحقا أنَّ مهمّةَ الهيئة المذكورة "هي دراسة واقتراح الطُرق الكفيلة بغيةَ إلغاء الطّائفيّة".
من دون الارتياب بحسن نيّة الشخصيّات المارونيّة التي اعترَضت في عِشرينات القرن الماضي على اعتماد الطائفيّة السياسيّة، نلاحظ المعطيات التاريخيّةَ التالية: غالِبية النخب العِلمية آنذاك كانت مسيحيّة. عدد المسيحيّين كان راجِحا. الانتداب الفرنسي كان قائما. وبشاره الخوري وإميل إدّه كانا يتنافسان على كسب تأييد الشارع الإسلامي. وحين عادت فكرة إلغاء الطائفيّة السياسيّة في سبعينات القرن الماضي، ترافقت مع اندلاع الحرب الفِلسطينيّة السوريّة اليساريّة على لبنان بمسيحيّيه ومسلميه، وجاءت في سياق مُخَطَّط رَمى إلى إضعاف الحالة المارونيّة ـ أي المارونيّة السياسيّة ـ في الدولة اللبنانيّة، والاستيلاء على الحكم، وتغيير النظام، وتمرير توطين الفلسطينيّين.
إنّ معطيات سبعينات القرن الماضي أصبحت نقيض معطيات عِشريناته، إذ تحوَّل لبنان من دولة ذي وجه عربي إلى وطن عربي الهُويّـة، وانخفَض عدد مسيحيّيه، وفَقدَت دولة الاستقلال قرارَها الحر وسيادتَها على أراضيها وحدودِها. ويُضاف إلى كلِّ ذلك، بروز جِهاديّة شيعيّة مسلَّحة في لبنان وإيران، وأصوليّة سُـنّية متطرِّفة في لبنان والعالم العربي.
تِجاه هذه التحوّلات، تُشكِّل محاولة إلغاء الطائفيّة السياسيّة اليوم، خطوة جديدة في مسيرة تثبيت هيمنة مكوِّن طائفي واحد على سائر مكوّنات الوطن اللبناني، ما يُـهَـمِّش كلّيا دور المسيحيّين، وبالتالي صيغة لبنان ورسالته في هذا الشرق. إنّ لبنان بحاجة إلى إلغاء السياسة الطائفيّة الذي هي مشروع علماني، وليس إلى إلغاء الطائفيّة السياسيّة الذي هي مشروع طائفي. لكن أنّى للبنان أن يَسعَد بالعَلمنة، والمنسوب المدني تراجع في الحياة السياسيّة اللبنانيّة. فمنذ اندلاع الحرب في لبنان سنةَ 1975 تضاعف الانقسام الطائفي والفرز المذهبي أفقيّا وعَموديّا. ومنذ اتفاق الطائف سنةَ 1989 اتّخذت الطائفيّة بُعدا فِدراليّا لا على حساب مركزيّة الدولة، بل على حساب مفهوم الدولة الواحدة. وإذا كان تطبيق اللامركزيّة يتأجل فلأنّ تطبيقها يَزداد تعقيدا مع وجود الواقع الفدرالي المفروض علينا. فاللامركزية نظام برسم دولة مركزيّة، لا دولة فدراليّة. إنّ لبنان انتقل من دولة مركزيّة شرعيّة إلى دولة فدراليّة غير شرعيّة، من دون المرور باللامركزيّة التي لحظَها اتفاق الطائف. ودوام هذا الواقع غير المُشرعَن، يُقرِّبنا من التقسيم ويُبعِدنا عن الوِحدة.
مهما قلنا إنّ الحقَّ على الإسرائيلي أو الفلسطيني أو السوري أو غيرِهم، لو لم يكن المجتمع اللبناني أرضا خِصبةَ للصراعِ الطائفي، لما كان الانقسام ليحصل. والدليل أنّه كلّما أُعطينا فرصةَ الخروج من أزْمة نَعتمد تسويات طائفيّة ذات بُعد تقسيمي، ومُغلَّفة بشعارات وطنيّة ووِحدويّة. وآخِرُ تسوية كان اتّفاق الطائف الذي دعا إلى إلغاء الطائفيّة السياسيّة، فيما بنود معيّنة فيه كَرَّسَت الطائفيّةَ أكثر من أيِّ يوم مضى، وبنود أخرى عَطّلت هرَميّةَ القرار الدستوريّ، باسم المشاركة، بغية تذويب وِحدة الدولة تدريجا.
قام الوطن اللبناني على اتفاق طائفي، ووُضِع تحت الانتداب بمنطق طائفي، وانتُزع الاستقلال باتّحاد طائفيّ، وبُنيت الدولة على أساس طائفي، ونُظِّمَت الإدارة على معيار طائفيّ، وكُتِبَت المناهج التربوية بذِهنيّة طائفيّة، وتَقبّلنا الاحتلالات لأسباب طائفيّة، وقَدّمنا الولاء للوطن لامتلاكِه طائفيّا. وآسَف أن يكون هواؤنا طائفيّا.
لذا، هلمّوا نغيّر معا كُرويّات دمنا الطائفيّةَ بكُرويّات مدنيّة. ومن ثمّ نَحكي عن إلغاء الطائفيّة السياسيّة.
وآسَف أيضا لأنّ اللبنانيّين ليسوا بعد مسيحيّين ومسلمين، بل موارنة وسنّـة وشيعة ودروزا وسُريانا وعلويّين وأرمن وأرثوذكس وكاثوليك ملكيّين. هذه ظاهرة تَجِد تفسيرَها في التاريخ، حيث إنّ الفئات المشرقيّةَ والآسيويّةَ التي أتت لبنان بين القرن الخامس والقرن العشرين، لاذت به كأبناء طوائف ومذاهب، لا كأبناء الديانتين المسيحيّة والإسلاميّة. ذلك أنّ الاضطهاد الذي هجَّرها إلى لبنان ما كان مصدرُه دائما دينا آخر، بل طائفة ضِدّ طائفة أخرى من نفس الدين، ومذهب ضِدّ مذهب آخر من ذات الدين.
لذلك إنّ موضوعَ الطائفيّة في لبنان لا يستطيع أن يُطرَح بشكل أحاديّ وجُزئيّ. يجب أن يكون جُزءا من مشروع إصلاحيّ عام للبنان الإنسان والمواطن والمجتمع والدولة والهويّة الوطنيّة. وإذا دَعت الظروف إلى تنفيذ الإصلاحات على دُفعات، فيجب أن يَسبق هذا التنفيذ المرحلي، اتفاق شامل على مشروع إصلاحيّ متكامل مع جدول زمنيّ محدَّد، الأمر غير المتوفِّر بعد. وكما يربُط حزب الله بتَّ وضع سلاحه في إطار استراتيجيّة دفاعيّة، كذلك لا يجوز المسّ بالتوازن الميثاقي، ولنقلْها صراحة: بالتوازن الطائفيّ، إلّا في إطار مشروع سياسيّ دستوريّ اتّحاديّ واضح.
وبانتظار إرساء نظام علمانيّ حقيقيّ، لا بدّ من تنظيم الحالة الطائفيّة على أساس المناصَفة السياسيّة والإداريّة. لا نستطيع أن نكون نِصف طائفيّين ونِصف عَلمانيّين. لا تستطيع إدارة الدولة أن تكون مدنيّة، ومجتمعُها طائفيّ. لا يمكن أن تكون الوظائف غير طائفيّة، والموظّفون طائفيّون. هذا دَجَل، هذا كذِب، وهذا خِداع.
أريد أن أختم بما قاله سماحة الإمام الشيخ محمّد مَهدي شمس الدين 2001 في كتابه "هذه وصيّتي": تبصَّرت عميقا في طبيعة الاجتماع اللبنانيّ السياسيّ الذي يتميَّز بخصوصيّات معيّنة نتيجة التنوّع الطّائفيّ، وتبيّن لي أنّ إلغاء نظام الطائفيّة السياسيّة في لبنان يحمِل مغامرة كبرى قد تهدّد مصير لبنان، أو على الأقلّ ستهدّد استقرار لبنان، وقد تخلق ظروفا للاستقواء بالخارج من هنا ومن هناك، ولتدَخُّل القوى الأجنبيّة من هنا ومن هناك.
ولذلك فإني أوصي الشّيعةَ اللبنانيّين بوجه خاص، وأتمنّى وأوصي جميع اللبنانيّين، مسلمين ومسيحيّين، أن يرفعوا من العمل السِّياسي، من الفِكر السياسيّ، مشروع إلغاء الطائفيّة السياسيّة، لا بمعنى أنّه يحرم البحث فيه والسعي إليه، ولكنْ هو من المهمّات المستقبليّة البعيدة، وقد يحتاج إلى عشرات السنين لينضُج بحسب نُضْج تطوُّر الاجتماع اللبناني وتطوّرات المحيط العربي بلبنان.
• نائب رئيس حزب الكتائب اللبنانيّة
وإذا كانت كلُّ هذه النوعيّات الطائفية قائمة في مجتمعِنا، فلا تكون الطائفية إذن عارضا مرحليّا، بل حالة أصيلة وقديمة في الشخصيّة اللبنانية التاريخيّة. وإذا كانت الطائفية مُكَـوِّنـا أساسيّـا في تاريخِنا، فهي مرتبطة بالحالة الدينيّة في الشرق، نظرا للتواصل الطبيعيّ بين لبنان ومحيطِه. وإذا كان اختلاف التفسير الفلسفيّ للألوهيّة و/أو الصراع على السلطةِ ـ وقد تَخطّاهُما الزمن ـ أَفرز الطوائف والمذاهب، فالاضطهاد الدينيّ ـ وهو مستمر ـ ولَّد الطائفيةَ السياسيةَ بمفهومِها الكِيانيّ الشموليّ، لا بمفهومِها اللبنانيّ المؤقَت.
ثلاثة استنتاجات مِمّا تَقدَّم: أوّلاً: لا فائدة من إلغاء الوجه السياسي للطائفية من دون معالجة جوهر الطائفية المتعدد الأوجُه؛ الجُزء لا يُلغي الكلّ. الثاني: لا قيمةَ لإلغاء الحالة الطائفية العامّة في لبنان وحدَه ما لم يُعتَمد نظامُ الحِياد اللبناني، وإلّا ستسقُط العلمنة بفعل التأثير المتبادَل بين المكوِّنات الاجتماعية اللبنانية والحالات المذهبيّة في الشرق. ثالثا: من الصعب الانتقال إلى العَلمنة من دون الانتقال إلى الحالة المواطنيّة. ومن المستحيل بلوغ الحالة المواطنيّة من دون الولاء المطلَق للوطن والاتفاق على هُويّتِه ودوره ورسالته. وهو أمرٌ لا يزال يَعتريه اختلاف والتباس وغُموض وخُبث متبادَل.
اللافت حاليّا في إلغاء الطائفية السياسية أنّ المشروع الجديد طرحَه السياسيّون قبل المفكّرين. هذا لا يعني أنّ السياسيّين الحاليّين في لبنان علمانيّون، بل أنَّ الطرح هو وليد رغبة بالهيمنة وليس وليد دافع إصلاحيّ. نكون واهمين إذا اعتقدنا بأنّ هذه الطبقةَ السياسيةَ قادرة على عَلمنة المجتمع، ما دامت الطائفيّة، معطوفة على الفساد، هما الرأسمال الأساسيّ لغالِبيّة أركانِها.
واللافت أنّه قبل أن يطالِب سياسيّون مسلمون ويساريّون حديثا بإلغاء الطائفيّة السياسيّة، رفض سياسيّون مسيحيّون قديما اعتمادَها أصلا. وثائق المجلس النيابي تَـكشِف أنَّ النائب الماروني، ابنَ فتوح كسروان، جورج زوين، اعترض على المادّتين 95 و 96 من الدستور اللبناني الأول لدى مناقشتِه في 22 أيّار سنةَ 1926، لأنّهما تكرِّسان الطائفيّةَ السياسيّة. وتكشِف هذه الوثائق أيضا أنّ إميل إدّه طالب أثناء مناقشة حكومة الشيخ بشارة الخوري في 14 أيّار سنةَ 1927 "بوجوب القضاء على القاعدة الطائفيّة في توزيعِ المناصب ما دامت حقوق جميعِ الطوائف محفوظة ومحترَمة في البرلمان، لأنّ التقـيُّد بالطائفيّة في التوظيف يَقتُل الأهليّةَ ويَقضي على المساواة بين المواطنين".
ولمّا وضعت حكومة الاستقلالِ سنةَ 1943 بيانَها الوزاري الأوّل، تخطَّت إلغاء الطائفيّة السياسيّة، ودعت إلى إلغاء الطائفيّة ككلّ مستقبَلا، حيث ورَدت في البيان الجملة التالية: "إنّ الساعةَ التي يُمكن فيها إلغاء الطائفيّة هي ساعة يَـقَظة وطنيّة شاملة مبارَكة في تاريخ لبنان، وسنسعى لكي تكون هذه الساعة قريبة بإذن الله". ومُذ ذاك لم يأذن الله".
أمّا في اتفاق الطائف، فجاءت صياغة المـــادةِ 95 من الدّستورِ ملتبِسة؛ ففيما تذكر المادّةُ أنّ "على مجلس النّوّاب اتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق إلغاء الطّائفيّة السياسيّة وفْـق خُطّة مرحليّة وتأليف هيئة وطنيّة"، تُحدِّد المادة نفسها لاحقا أنَّ مهمّةَ الهيئة المذكورة "هي دراسة واقتراح الطُرق الكفيلة بغيةَ إلغاء الطّائفيّة".
من دون الارتياب بحسن نيّة الشخصيّات المارونيّة التي اعترَضت في عِشرينات القرن الماضي على اعتماد الطائفيّة السياسيّة، نلاحظ المعطيات التاريخيّةَ التالية: غالِبية النخب العِلمية آنذاك كانت مسيحيّة. عدد المسيحيّين كان راجِحا. الانتداب الفرنسي كان قائما. وبشاره الخوري وإميل إدّه كانا يتنافسان على كسب تأييد الشارع الإسلامي. وحين عادت فكرة إلغاء الطائفيّة السياسيّة في سبعينات القرن الماضي، ترافقت مع اندلاع الحرب الفِلسطينيّة السوريّة اليساريّة على لبنان بمسيحيّيه ومسلميه، وجاءت في سياق مُخَطَّط رَمى إلى إضعاف الحالة المارونيّة ـ أي المارونيّة السياسيّة ـ في الدولة اللبنانيّة، والاستيلاء على الحكم، وتغيير النظام، وتمرير توطين الفلسطينيّين.
إنّ معطيات سبعينات القرن الماضي أصبحت نقيض معطيات عِشريناته، إذ تحوَّل لبنان من دولة ذي وجه عربي إلى وطن عربي الهُويّـة، وانخفَض عدد مسيحيّيه، وفَقدَت دولة الاستقلال قرارَها الحر وسيادتَها على أراضيها وحدودِها. ويُضاف إلى كلِّ ذلك، بروز جِهاديّة شيعيّة مسلَّحة في لبنان وإيران، وأصوليّة سُـنّية متطرِّفة في لبنان والعالم العربي.
تِجاه هذه التحوّلات، تُشكِّل محاولة إلغاء الطائفيّة السياسيّة اليوم، خطوة جديدة في مسيرة تثبيت هيمنة مكوِّن طائفي واحد على سائر مكوّنات الوطن اللبناني، ما يُـهَـمِّش كلّيا دور المسيحيّين، وبالتالي صيغة لبنان ورسالته في هذا الشرق. إنّ لبنان بحاجة إلى إلغاء السياسة الطائفيّة الذي هي مشروع علماني، وليس إلى إلغاء الطائفيّة السياسيّة الذي هي مشروع طائفي. لكن أنّى للبنان أن يَسعَد بالعَلمنة، والمنسوب المدني تراجع في الحياة السياسيّة اللبنانيّة. فمنذ اندلاع الحرب في لبنان سنةَ 1975 تضاعف الانقسام الطائفي والفرز المذهبي أفقيّا وعَموديّا. ومنذ اتفاق الطائف سنةَ 1989 اتّخذت الطائفيّة بُعدا فِدراليّا لا على حساب مركزيّة الدولة، بل على حساب مفهوم الدولة الواحدة. وإذا كان تطبيق اللامركزيّة يتأجل فلأنّ تطبيقها يَزداد تعقيدا مع وجود الواقع الفدرالي المفروض علينا. فاللامركزية نظام برسم دولة مركزيّة، لا دولة فدراليّة. إنّ لبنان انتقل من دولة مركزيّة شرعيّة إلى دولة فدراليّة غير شرعيّة، من دون المرور باللامركزيّة التي لحظَها اتفاق الطائف. ودوام هذا الواقع غير المُشرعَن، يُقرِّبنا من التقسيم ويُبعِدنا عن الوِحدة.
مهما قلنا إنّ الحقَّ على الإسرائيلي أو الفلسطيني أو السوري أو غيرِهم، لو لم يكن المجتمع اللبناني أرضا خِصبةَ للصراعِ الطائفي، لما كان الانقسام ليحصل. والدليل أنّه كلّما أُعطينا فرصةَ الخروج من أزْمة نَعتمد تسويات طائفيّة ذات بُعد تقسيمي، ومُغلَّفة بشعارات وطنيّة ووِحدويّة. وآخِرُ تسوية كان اتّفاق الطائف الذي دعا إلى إلغاء الطائفيّة السياسيّة، فيما بنود معيّنة فيه كَرَّسَت الطائفيّةَ أكثر من أيِّ يوم مضى، وبنود أخرى عَطّلت هرَميّةَ القرار الدستوريّ، باسم المشاركة، بغية تذويب وِحدة الدولة تدريجا.
قام الوطن اللبناني على اتفاق طائفي، ووُضِع تحت الانتداب بمنطق طائفي، وانتُزع الاستقلال باتّحاد طائفيّ، وبُنيت الدولة على أساس طائفي، ونُظِّمَت الإدارة على معيار طائفيّ، وكُتِبَت المناهج التربوية بذِهنيّة طائفيّة، وتَقبّلنا الاحتلالات لأسباب طائفيّة، وقَدّمنا الولاء للوطن لامتلاكِه طائفيّا. وآسَف أن يكون هواؤنا طائفيّا.
وآسَف أيضا لأنّ اللبنانيّين ليسوا بعد مسيحيّين ومسلمين، بل موارنة وسنّـة وشيعة ودروزا وسُريانا وعلويّين وأرمن وأرثوذكس وكاثوليك ملكيّين. هذه ظاهرة تَجِد تفسيرَها في التاريخ، حيث إنّ الفئات المشرقيّةَ والآسيويّةَ التي أتت لبنان بين القرن الخامس والقرن العشرين، لاذت به كأبناء طوائف ومذاهب، لا كأبناء الديانتين المسيحيّة والإسلاميّة. ذلك أنّ الاضطهاد الذي هجَّرها إلى لبنان ما كان مصدرُه دائما دينا آخر، بل طائفة ضِدّ طائفة أخرى من نفس الدين، ومذهب ضِدّ مذهب آخر من ذات الدين.
لذلك إنّ موضوعَ الطائفيّة في لبنان لا يستطيع أن يُطرَح بشكل أحاديّ وجُزئيّ. يجب أن يكون جُزءا من مشروع إصلاحيّ عام للبنان الإنسان والمواطن والمجتمع والدولة والهويّة الوطنيّة. وإذا دَعت الظروف إلى تنفيذ الإصلاحات على دُفعات، فيجب أن يَسبق هذا التنفيذ المرحلي، اتفاق شامل على مشروع إصلاحيّ متكامل مع جدول زمنيّ محدَّد، الأمر غير المتوفِّر بعد. وكما يربُط حزب الله بتَّ وضع سلاحه في إطار استراتيجيّة دفاعيّة، كذلك لا يجوز المسّ بالتوازن الميثاقي، ولنقلْها صراحة: بالتوازن الطائفيّ، إلّا في إطار مشروع سياسيّ دستوريّ اتّحاديّ واضح.
وبانتظار إرساء نظام علمانيّ حقيقيّ، لا بدّ من تنظيم الحالة الطائفيّة على أساس المناصَفة السياسيّة والإداريّة. لا نستطيع أن نكون نِصف طائفيّين ونِصف عَلمانيّين. لا تستطيع إدارة الدولة أن تكون مدنيّة، ومجتمعُها طائفيّ. لا يمكن أن تكون الوظائف غير طائفيّة، والموظّفون طائفيّون. هذا دَجَل، هذا كذِب، وهذا خِداع.
أريد أن أختم بما قاله سماحة الإمام الشيخ محمّد مَهدي شمس الدين 2001 في كتابه "هذه وصيّتي": تبصَّرت عميقا في طبيعة الاجتماع اللبنانيّ السياسيّ الذي يتميَّز بخصوصيّات معيّنة نتيجة التنوّع الطّائفيّ، وتبيّن لي أنّ إلغاء نظام الطائفيّة السياسيّة في لبنان يحمِل مغامرة كبرى قد تهدّد مصير لبنان، أو على الأقلّ ستهدّد استقرار لبنان، وقد تخلق ظروفا للاستقواء بالخارج من هنا ومن هناك، ولتدَخُّل القوى الأجنبيّة من هنا ومن هناك.
ولذلك فإني أوصي الشّيعةَ اللبنانيّين بوجه خاص، وأتمنّى وأوصي جميع اللبنانيّين، مسلمين ومسيحيّين، أن يرفعوا من العمل السِّياسي، من الفِكر السياسيّ، مشروع إلغاء الطائفيّة السياسيّة، لا بمعنى أنّه يحرم البحث فيه والسعي إليه، ولكنْ هو من المهمّات المستقبليّة البعيدة، وقد يحتاج إلى عشرات السنين لينضُج بحسب نُضْج تطوُّر الاجتماع اللبناني وتطوّرات المحيط العربي بلبنان.
• نائب رئيس حزب الكتائب اللبنانيّة