محمد السمّاك : ممّ يخاف المسيحيون العرب؟
المستقبل 31 / 10 / 2011 | |
هناك ادعاء بأن ما بات يُعرف بـ"الربيع العربي" سوف ينعكس سلباً على أوضاع مسيحيي الشرق. وهناك ادعاء معاكس يقول إن المسيحيين الذين كانوا أساساً في الحضارة العربية الاسلامية، وفي النهضة العربية الحديثة، وفي مقاومة الاستعمار الأجنبي والاحتلال الصهيوني، لا يمكن الا أن يكونوا أساساً أيضاً في الربيع العربي، وتالياً، لا بد أن ينعكس ذلك خيراً عليهم. فأي الادعاءين هو الصحيح ؟. لا تنطلق المخاوف المسيحية من فراغ. هناك أسباب مبررة لها. بعض هذه الأسباب واقعي. وهو يتمثل في المأساة البشعة التي حلت بالمسيحيين العراقيين على نطاق واسع. كما يتمثل في المأساة الأقل بشاعة التي حلت بالمسيحيين المصريين على نطاق أضيق. في الحالة العراقية جاء التغيير من الخارج. وفي الحالة المصرية جاء التغيير من الداخل. وفي الحالتين لم ينجُ المسيحيون من بعض تداعياتهما السلبية. لقد هُدمت كنائس ودمرت بيوت، وقتل رهبان وشردت عائلات أشورية وكلدانية، سريانية وكاثوليكية، على نحو لم يعرفه العراق منذ استقلاله عن بريطانيا. لم تساعد الاضطرابات الطائفية في مصر على محو صورة المأساة العراقية، ولا حتى على التخفيف من وقعها. حمل المهاجرون المسيحيون العراقيون وقائع مؤلمة عن معاناتهم الى أخوانهم في سوريا ولبنان والأردن. كان طبيعياً أن يتسلل الخوف الى قلوب هؤلاء أيضاً. وبدلاً من أن يتساءلوا: ماذا نستطيع أن نفعل لمساعدتهم، غلب عليهم التساؤل: متى يحين دورنا ؟ ولمّا انفجرت الأحداث في سوريا كان طبيعياً أن يتساءلوا: هل حان دورنا؟. مع تضخم الاحداث في سوريا، تضخمت علامة الاستفهام. وزاد في تضخمها غياب أي تحرك اسلامي على المستوى العربي لتبديد هذه المخاوف. كل ما حدث هو صدور بيان من هنا، وتصريح من هناك يستخف بهذه المخاوف، ويطعن بمبرراتها. غير ان الخائف من الظلام لا يطمئنه سوى النور. حاول الأزهر الشريف أن يضيء شمعة عندما أصدر وثيقته التي قال فيها بالدولة الوطنية لا الدينية. وبالمساواة بين المواطنين، وباحترام حقوق الانسان والحريات العامة. ولكن ظلام البيانات والتصريحات الأخرى التي تحاول استخراج رفات الذميّة وهي رميم، أرخى بكلكله فوق مناطق "الربيع العربي"، فلم تعد الأولوية لدى المسيحيين تنشق أزهار هذا الربيع التي تعبق بنسائم الحرية، ولم يعد همّهم أن تتفتح هذه الأزهار ليعمّ أريجها المنطقة كلها، ولكن همّهم انصبّ على كيفية إعادة طمر هذه الرفات في غياهب الماضي بكل ما تحمله من ذكريات أليمة، وبكل ما تثيره من مخاوف على الكرامة الانسانية. ومن هنا كان يفترض أن ينطلق موقف المسلمين ليس من أجل طمأنة مواطنيهم المسيحيين فقط، ولكن من أجل تأكيد فك الارتباط بين الاسلام كعقيدة، وبين الذميّة كنظام سياسي - اجتماعي اعتمده حكام مسلمون في مرحلة زمنية غابرة. لم تكن صيغة المواطنة معتمدة أو معروفة في ذلك الوقت في دول متعددة الأديان والأجناس. ثم أسيء استخدام هذا النظام في مرحلة التقهقر والإنحطاط، خاصة في أواخر العهد العثماني. وبلغت قمة الإساءة عندما انفجرت حرب التحرير اليونانية ضد الاحتلال التركي، فتحول الصراع التركي اليوناني الى صراع تركي أرثوذكسي، ومن ثم الى صراع ضد مسيحيي الشرق، حيث فرض عليهم اللباس الأسود والعمائم السوداء، وسواها من الاجراءات لتمييزهم عن بقية المواطنين. لم يفرض العرب تلك الاجراءات. ولم يكن لفرضها أساس في الاسلام. فرضها الأتراك ولأسباب سياسية انتقامية، فحمل وزرها الاسلام ظلماً وافتئاتاً. ولا يزال حتى اليوم. فالقاعدة النبوية لعلاقة المسلمين بالمسيحيين في الدولة الواحدة هي:" لهم ما لنا وعليهم ما علينا". وهذه القاعدة تترجم بالمساواة في المواطنة. وهي ليست مشروطة بالمساواة في العدد، لأن الحق قيمة انسانية مطلقة، وهو غير مرتبط بنسبية الأعداد. ولكن اذا كان هناك تقصير من المسلمين في التوافق على الجهر بهذه المبادئ الكلية، فإن هناك تقصيراً من المسيحيين في التوافق على الجهر بالموقف الديني والأخلاقي والوطني من "الربيع العربي". ولعل بعض السبب في ذلك يعود الى الواقع غير السليم وغير الصحي الذي يمر به مجلس كنائس الشرق الأوسط الذي يفترض أن يمثل كل كنائس الشرق، وأن ينطق باسم مسيحيي الشرق جميعاً. أدى هذا الواقع الى تعدد مواقف كنائس الشرق، وحتى الى تعدد المواقف داخل الكنيسة الواحدة، الأمر الذي أثار حالة من الإرباك الشديد. فالمجلس إن لم يكن موجوداً، فإن الظروف الراهنة وما يرافقها من تداعيات ومخاوف تتطلب إيجاده. ومما يؤكد على ضرورة ذلك، إدراك الكنائس نفسها، كذلك الدول الغربية الراغبة في مد يد العون الى مسيحيي الشرق، بالحاجة الى آلية صالحة وجامعة للعمل من خلالها. ولكن هناك ما يثير مخاوف مبررة من احتمالات سوء تفسير مبادرة من هذا النوع وتصويرها وكأنها تربط مسيحيي الشرق بالغرب.. وتالياً بسياسة الغرب وطموحاته وأطماعه التاريخية. وإذا حدث ذلك نتيجة خطأ ما، فإنه قد يؤدي الى عكس النتائج التي ينشدها مسيحيو الشرق ويتعاطف معها مسلموه. وذلك بتكريس خطأ الاعتقاد بأن مسيحيي الشرق هم امتداد للغرب. وهو خطأ ألحق في الماضي أفدح الأضرار بالعلاقات الاسلامية المسيحية، وبمبدأ حقوق المواطنة وبالتطلعات المشروعة نحو الدولة المدنية. إن أي تصرف يوفر صدقية مجانية لهذا الاعتقاد الخاطئ ولو بصورة غيرة مقصودة من شأنه أن يعمّق من هوّة التباينات القائمة حالياً، وذلك بإضافة مخاوف اسلامية الى المخاوف المسيحية. من هنا الحاجة، في اطار "الربيع العربي" العام الى ربيع مسيحي خاص، يعيد الصدقية المسيحية المشرقية والعربية القومية، الى مجلس كنائس الشرق الأوسط ليتمكن المجلس من ملء فراغ التحدث باسم المسيحيين جميعاً، وليستأنف تالياً دوره البناء في الحوار المسيحي الاسلامي. ثمة سلبيتان اسلامية ومسيحية لا بد من تفكيكهما. تتمثل السلبية الاسلامية في تضخم أو في تضخيم- الحضور السياسي الاسلامي في أساس حركات "الربيع العربي". أما السلبية المسيحية فإنها تتمثل في غياب أو في تغييب- مجلس كنائس الشرق الأوسط بصفته الناطق الشرعي باسم مسيحيي الشرق. تؤجج حالة اللاتوازن هذه بين الحضور أو الاستحضار- الاسلامي المبالغ فيه، وبين الإنكفاء أو الاستغناء- المسيحي المبالغ فيه أيضاً، من مشاعر الخوف المسيحي، ومن مشاعر الخوف الاسلامي من هذا الخوف. فالخوف يؤسس للاثقة. ومن المستحيل أن يقوم عيش واحد أو حتى عيش مشترك على قاعدة الخوف واللاثقة. |