قرأتُ في عدد "النهار" (السبت 28 أيار 2011)، نداءً من شخصيات لبنانية مسيحية الى "مسيحيي لبنان والعالم العربي". أرجو أن يتقبّل أصحابه ملاحظات أقدّمها حوله، مشاركةً في همومهم وهواجسهم، وتحية لهم.
الملاحظة الاولى يفرضها الشعار نفسه: "عروبة العيش معاً"، فهو يعني أن في لبنان والعالم العربي نوعين من السكان: "نحن" (المسيحيون)، و"أنتم" أو "هم" (المسلمون). وهو، إذاً، يقوم على لغة دينية تندرج بدئياً في السياق التقليدي الموروث من القرون الوسطى. وهو ما ينبغي الخروج منه، بدئياً. فدون ذلك لا يكون لهذا الشعار معنى، إلاّ إذا كان أصحابه يطالبون حقاً بالعيش معاً كفريقين دينيين مختلفين. وسيكون هذا توكيداً آخر على "التراث" القروسطي.
هكذا يبدو، في أية حال، أن الأولية في هذا النداء ومعطاة الى الدين لا بوصفه إيماناً فقط، وإنما بوصفه كذلك "هوية" و"مؤسسة". لنقل، بتعبير آخر "الذات" التي تتكلم في هذا النداء، "ذات" دينية في المقام الاول – قبل أن تكون لبنانية أو عربية.
و"عروبة العيش معاً" إذاً، العروبة التلفيقية الاسلامية – المسيحية، لا العروبة المدنية التي هي وحدها يمكن أن تكون مشتركة حقاً.
يُقرّ الشعار بالانقسام الأفقي المسيحي – الاسلامي في لبنان والعالم العربي، ويتبنّاه. وينسى أو يتناسى الانقسام العمودي الأكثر خطورة وفاعلية. لا في ما بين المسيحيين، وحدهم، بل في ما بين المسلمين ايضاً.
مثلاً، مَن الأصح والأعمق تمثيلاً لهذه "النحن" المسيحية في لبنان والعالم العربي؟ الكاثوليكية؟ الارثوذكسية؟ القبطية؟ البروتستنتية؟ ولهذه "الأنتم" أو "الهُم" الاسلامية؟ أهي السنّية؟ الشيعيّة؟ الدرزية؟ الكردية؟ الأمازيغية؟ ولا أتساءل حول "مسيحيات" أخرى، و"إسلاميات" أخرى، مهمّشة وشبه منبوذة.
وهذا يعني أن عروبة العيش معاً هي العروبة المدنية. فالعروبة المشتركة مدنية، أو لا تكون إلاّ تلفيقاً دينياً.
في هذا الشعار، إذاً، ما يضمر أن المسيحيين ينقلون الى المسلمين هذه الرسالة: نحن "معكم"، لكننا لسنا "منكم". وهي رسالة دينية في المقام الاول.
هكذا يؤكد هذا الشعار استمرار المنطق الديني في النظر الى لبنان والعالم العربي. وهو منطق أثبتت التجربة أنه لا يخدم التحرّر ولا التقدّم، وأنه عقبة راسخة ضد حريات الانسان وحقوقه.
استطراداً، يحسن في هذا المقام، أن نطرح بعض الأسئلة على الصعيد الميتافيزيقي – اللاهوتي، استضاءةً واستكمالاً.
هل للمسيحيين اللبنانيين والعرب، بوصفهم هذه "النحن" الدينية، رسالة تنويرية للمسلمين العرب – "الهُم" وما هي؟ هل لدينٍ وحداني (سماوي) أن يوجّه أية رسالة تنويرية لأي دين وحداني آخر؟ وما هي؟ ثم، أليست الاديان الوحدانية متنافية في قاعدتها الايمانية الاولى: مفهوم الله، ومفهوم العلاقة بينه وبين الانسان والكون؟ فأية صلة أو وحدة مثلاً (وليعذرنا حوار الاديان وحواريّوه) بين مفهوم الله – مجسّداً، ومفهومه – مجرّداً؟ أليسا متناقضين جذرياً؟
لا تتلاقى هذه الأديان إلاّ في عموميات أخلاقية ليست من خصوصياتها، بحصر المعنى، وإنما هي، بالأحرى، من خصوصيات التجربة البشرية.
ولئن صحّ أن يتمايز المسيحيون والمسلمون، على الصعيد الايماني اللاهوتي، فمن الصحيح ايضاً، وربما الأصح أن يتساووا، على الصعيد الاجتماعي – الثقافي، دون أي تمييز، وأن تكون لغتهم الثقافية، الاجتماعية، السياسية مدنية، لا دينية.
من هنا تجيء ملاحظتي الثانية، وهي أن في كون هذا النداء استئنافاً للغة القرون الوسطى وما قبلها، كما أشرت، فإنه يتضمن استنفاراً للذاكرة التاريخية الدينية، حيث تتراءى وارفةً ظلال الدولة الدينية في المشرق العربي "تيمّناً" بدولة إسرائيل – النموذج، في كل ما يتعلّق بالوحدة بين الدين والسياسة.
وفي هذا الاستنفار، إذاً، ما يقول: كما كانت التوراة نموذجاً تأسيسياً لدين الوحدانية، تكون إسرائيل نموذجاً تأسيسياً لدولة الوحدانية الدينية.
وفي هذا ينسى أصحاب هذا النداء تاريخ الصراع الكبير الخلاّق الذي خاضه مسيحيو الغرب لكي يكون الانسان مركز الكون، بدلاً من تمركزه حول الله والسماء.
ينسون كذلك أنهم تاريخياً، يسبقون المسلمين في انتمائهم الى لبنان والعروبة. وأن الأكثرية والأقلية لا شأن لهما في كل ما هو إنساني، عظيم، خلاّق. الإبداع إنساني، واحد، في ما وراء الأكثرية والأقلية. ولا يوصف العقل بالكمّ، أو بأنه أكثرية أو أقلية.
ينسى أصحاب النداء كذلك الجماعات التي خرجت كليّاً من الأطر التدينية التقليدية، مؤمنة بالإخاء البشري والإنسان، بوصفه إنساناً. وهؤلاء "الكفرة"، أو "الطائفة العابرة للطوائف" ليسوا قلّة. إنهم، في الواقع الحيّ، يمثّلون الجانب الأكثر إشراقاً في حضور العرب، إبداعياً ومعرفياً.
الملاحظة الثالثة هي أن الحاجة الكيانية، اليوم، في لبنان والعالم العربي، تتمثّل في أن يتكلم المسيحي (والمسلم) كلبناني أو عربي، أولاً، وأساساً. هكذا يجب أن يقترن الحضور المسيحي الأفقي، ببعدٍ عمودي، سياسياً وثقافياً واجتماعياً، وفي معزل عن التديّن، لاهوتياً. يتمثّل هذا البعد في تحقيق الدولة المدنية والمجتمع المدني: دولة الإنسان في ما وراء الانتماءات الدينية والإتنية.
ولا أشك في أن أصحاب النداء يدركون أن الثورة المعرفية الحديثة، تؤكد أن دور الدين – المؤسسة، في بناء الحضارة وتقدّم المجتمعات، أصبح اليوم أداة للإعاقة والتعطيل، لا للحياة، وحدها، وإنما ايضاً، وعلى نحو خاص، لفاعلية الإنسان، وإبداعه. ولا تفيدنا في هذا المجال، أمثلة التعايش التاريخية، الأندلس أو غيرها، على افتراض صحتها. فهذه أمثلة – مسلّمات تحتاج الى نقد، ومساءلة، وإعادة نظر، من أجل تقويمها، بشكل أكثر دقّة وموضوعية.
هكذا، لا يمكن بناء لبنان والعالم العربي في اتجاه التقدّم على قاعدة: "نحن"، و"هم". وإنما يُبنى على قاعدة المواطنة الواحدة، والمواطنين المتساوين فيها، مدنياً، حقوقاً وواجبات.
بعبارة ثانية، لا يُبنى لبنان والعالم العربي على المواطنة السماوية، وإنما يُبنى على مواطنة إنسانية أرضية. إن للاهوتية الدولة في المسيحية والاسلام، تاريخاً مظلماً ودامياً، دُمّرت فيه الحقوق والحريات، ودمّرت العبقريات والمعرفة.
اللاهوتية السياسية – المؤسسية هي أعلى أشكال الأنظمة الشمولية الطغيانية. ليست عنفاً ضدّ "الجسد"، وحده، وإنما هي كذلك عنف ضدّ "الروح".
ولا يعني شيئاً، في الإطار العميق للنداء، ما جاء فيه على "الدعوة" الى "دولة مدنية تقوم على التمييز الواضح، الى حد الفصل بين الدين والدولة. فهي لا تمنح حقوقاً الا للمواطنين، دونما تمييز، ولكنها في الوقت ذاته توفر للطوائف الضمانات التي من حقها الحصول عليها، للاطمئنان الى وجودها الحرّ، والخيارات المصيرية العامة"، - أقول ان هذا لا يعني شيئاً، عدا أنه متناقض، وتنتهي الجملة بما يُلغي ما بدأت به. فلا تقوم مدنية الدولة مع القبول باستمرار الأسس التي يقوم عليها العنف الديني – اللاهوتي في الحياة الانسانية. ولا يتحقق فصل الدين عن الدولة، مع بقاء الدين مؤسسات ومراجع تشريعية ممثلة في "طوائف". لا يتحقق الا اذا اصبح الدين ايماناً فردياً يلزم صاحبه، وحده. وتكون المؤسسة المدنية هي، وحدها، المرجع في كل ما يتعلق بشؤونه السياسية والاجتماعية والثقافية، وبحقوقه وحرياته.
ولا تُلغى "الطائفة"، طبعا، وانما تتغير: تصبح لمن يشاء، مناخاً روحياً، أو فضاء لاهوتياً.
الملاحظة الرابعة الاخيرة، وهي نوع من الرجاء أوجزها كما يلي: ما ينتظر من مسيحيي لبنان بخاصة، والعالم العربي، بعامة، ليس أن يتدبروا كيفية "العيش معاً" في الواقع السائد، وانما هو ان يعملوا على تغيير هذا الواقع، بوصفهم مواطنين مدنيين، وعلى التأسيس لمدنية الحياة العربية، بالمعنى الشامل، في القرن الحادي والعشرين، مستكملين في ذلك ما قاموا به، على صعيد الأدب والفكر، في القرنين التاسع عشر والعشرين.
إن دورهم اليوم هو في التأسيس لدولة الانسان، في ما وراء الانتماءات الدينية والاتنية. وهي دولة تكون، أو في وسعها أن تكون، منارة انسانية ومعرفية في حوض المتوسط الشرقي. بهذا تأخذ المسيحية في المشرق العربي وجهاً خلاقاً، نِدّاً لوجهها في الغرب. وفي هذا يكون لبنان اكثر من عنصر تنويري للعرب. يكون نموذجاً.
هكذا، كما كان لبنان طليعة التأسيس لثقافة عربية حديثة، يكون طليعة التأسيس لدولة مدنية حديثة – أعني لمجتمع عربي مدني، ولحياةٍ انسانية عربية مدنيّة.
-1-
الملاحظة الاولى يفرضها الشعار نفسه: "عروبة العيش معاً"، فهو يعني أن في لبنان والعالم العربي نوعين من السكان: "نحن" (المسيحيون)، و"أنتم" أو "هم" (المسلمون). وهو، إذاً، يقوم على لغة دينية تندرج بدئياً في السياق التقليدي الموروث من القرون الوسطى. وهو ما ينبغي الخروج منه، بدئياً. فدون ذلك لا يكون لهذا الشعار معنى، إلاّ إذا كان أصحابه يطالبون حقاً بالعيش معاً كفريقين دينيين مختلفين. وسيكون هذا توكيداً آخر على "التراث" القروسطي.
هكذا يبدو، في أية حال، أن الأولية في هذا النداء ومعطاة الى الدين لا بوصفه إيماناً فقط، وإنما بوصفه كذلك "هوية" و"مؤسسة". لنقل، بتعبير آخر "الذات" التي تتكلم في هذا النداء، "ذات" دينية في المقام الاول – قبل أن تكون لبنانية أو عربية.
و"عروبة العيش معاً" إذاً، العروبة التلفيقية الاسلامية – المسيحية، لا العروبة المدنية التي هي وحدها يمكن أن تكون مشتركة حقاً.
يُقرّ الشعار بالانقسام الأفقي المسيحي – الاسلامي في لبنان والعالم العربي، ويتبنّاه. وينسى أو يتناسى الانقسام العمودي الأكثر خطورة وفاعلية. لا في ما بين المسيحيين، وحدهم، بل في ما بين المسلمين ايضاً.
مثلاً، مَن الأصح والأعمق تمثيلاً لهذه "النحن" المسيحية في لبنان والعالم العربي؟ الكاثوليكية؟ الارثوذكسية؟ القبطية؟ البروتستنتية؟ ولهذه "الأنتم" أو "الهُم" الاسلامية؟ أهي السنّية؟ الشيعيّة؟ الدرزية؟ الكردية؟ الأمازيغية؟ ولا أتساءل حول "مسيحيات" أخرى، و"إسلاميات" أخرى، مهمّشة وشبه منبوذة.
وهذا يعني أن عروبة العيش معاً هي العروبة المدنية. فالعروبة المشتركة مدنية، أو لا تكون إلاّ تلفيقاً دينياً.
في هذا الشعار، إذاً، ما يضمر أن المسيحيين ينقلون الى المسلمين هذه الرسالة: نحن "معكم"، لكننا لسنا "منكم". وهي رسالة دينية في المقام الاول.
هكذا يؤكد هذا الشعار استمرار المنطق الديني في النظر الى لبنان والعالم العربي. وهو منطق أثبتت التجربة أنه لا يخدم التحرّر ولا التقدّم، وأنه عقبة راسخة ضد حريات الانسان وحقوقه.
استطراداً، يحسن في هذا المقام، أن نطرح بعض الأسئلة على الصعيد الميتافيزيقي – اللاهوتي، استضاءةً واستكمالاً.
هل للمسيحيين اللبنانيين والعرب، بوصفهم هذه "النحن" الدينية، رسالة تنويرية للمسلمين العرب – "الهُم" وما هي؟ هل لدينٍ وحداني (سماوي) أن يوجّه أية رسالة تنويرية لأي دين وحداني آخر؟ وما هي؟ ثم، أليست الاديان الوحدانية متنافية في قاعدتها الايمانية الاولى: مفهوم الله، ومفهوم العلاقة بينه وبين الانسان والكون؟ فأية صلة أو وحدة مثلاً (وليعذرنا حوار الاديان وحواريّوه) بين مفهوم الله – مجسّداً، ومفهومه – مجرّداً؟ أليسا متناقضين جذرياً؟
لا تتلاقى هذه الأديان إلاّ في عموميات أخلاقية ليست من خصوصياتها، بحصر المعنى، وإنما هي، بالأحرى، من خصوصيات التجربة البشرية.
ولئن صحّ أن يتمايز المسيحيون والمسلمون، على الصعيد الايماني اللاهوتي، فمن الصحيح ايضاً، وربما الأصح أن يتساووا، على الصعيد الاجتماعي – الثقافي، دون أي تمييز، وأن تكون لغتهم الثقافية، الاجتماعية، السياسية مدنية، لا دينية.
-2-
من هنا تجيء ملاحظتي الثانية، وهي أن في كون هذا النداء استئنافاً للغة القرون الوسطى وما قبلها، كما أشرت، فإنه يتضمن استنفاراً للذاكرة التاريخية الدينية، حيث تتراءى وارفةً ظلال الدولة الدينية في المشرق العربي "تيمّناً" بدولة إسرائيل – النموذج، في كل ما يتعلّق بالوحدة بين الدين والسياسة.
وفي هذا الاستنفار، إذاً، ما يقول: كما كانت التوراة نموذجاً تأسيسياً لدين الوحدانية، تكون إسرائيل نموذجاً تأسيسياً لدولة الوحدانية الدينية.
وفي هذا ينسى أصحاب هذا النداء تاريخ الصراع الكبير الخلاّق الذي خاضه مسيحيو الغرب لكي يكون الانسان مركز الكون، بدلاً من تمركزه حول الله والسماء.
ينسون كذلك أنهم تاريخياً، يسبقون المسلمين في انتمائهم الى لبنان والعروبة. وأن الأكثرية والأقلية لا شأن لهما في كل ما هو إنساني، عظيم، خلاّق. الإبداع إنساني، واحد، في ما وراء الأكثرية والأقلية. ولا يوصف العقل بالكمّ، أو بأنه أكثرية أو أقلية.
ينسى أصحاب النداء كذلك الجماعات التي خرجت كليّاً من الأطر التدينية التقليدية، مؤمنة بالإخاء البشري والإنسان، بوصفه إنساناً. وهؤلاء "الكفرة"، أو "الطائفة العابرة للطوائف" ليسوا قلّة. إنهم، في الواقع الحيّ، يمثّلون الجانب الأكثر إشراقاً في حضور العرب، إبداعياً ومعرفياً.
-3-
الملاحظة الثالثة هي أن الحاجة الكيانية، اليوم، في لبنان والعالم العربي، تتمثّل في أن يتكلم المسيحي (والمسلم) كلبناني أو عربي، أولاً، وأساساً. هكذا يجب أن يقترن الحضور المسيحي الأفقي، ببعدٍ عمودي، سياسياً وثقافياً واجتماعياً، وفي معزل عن التديّن، لاهوتياً. يتمثّل هذا البعد في تحقيق الدولة المدنية والمجتمع المدني: دولة الإنسان في ما وراء الانتماءات الدينية والإتنية.
ولا أشك في أن أصحاب النداء يدركون أن الثورة المعرفية الحديثة، تؤكد أن دور الدين – المؤسسة، في بناء الحضارة وتقدّم المجتمعات، أصبح اليوم أداة للإعاقة والتعطيل، لا للحياة، وحدها، وإنما ايضاً، وعلى نحو خاص، لفاعلية الإنسان، وإبداعه. ولا تفيدنا في هذا المجال، أمثلة التعايش التاريخية، الأندلس أو غيرها، على افتراض صحتها. فهذه أمثلة – مسلّمات تحتاج الى نقد، ومساءلة، وإعادة نظر، من أجل تقويمها، بشكل أكثر دقّة وموضوعية.
هكذا، لا يمكن بناء لبنان والعالم العربي في اتجاه التقدّم على قاعدة: "نحن"، و"هم". وإنما يُبنى على قاعدة المواطنة الواحدة، والمواطنين المتساوين فيها، مدنياً، حقوقاً وواجبات.
بعبارة ثانية، لا يُبنى لبنان والعالم العربي على المواطنة السماوية، وإنما يُبنى على مواطنة إنسانية أرضية. إن للاهوتية الدولة في المسيحية والاسلام، تاريخاً مظلماً ودامياً، دُمّرت فيه الحقوق والحريات، ودمّرت العبقريات والمعرفة.
اللاهوتية السياسية – المؤسسية هي أعلى أشكال الأنظمة الشمولية الطغيانية. ليست عنفاً ضدّ "الجسد"، وحده، وإنما هي كذلك عنف ضدّ "الروح".
ولا يعني شيئاً، في الإطار العميق للنداء، ما جاء فيه على "الدعوة" الى "دولة مدنية تقوم على التمييز الواضح، الى حد الفصل بين الدين والدولة. فهي لا تمنح حقوقاً الا للمواطنين، دونما تمييز، ولكنها في الوقت ذاته توفر للطوائف الضمانات التي من حقها الحصول عليها، للاطمئنان الى وجودها الحرّ، والخيارات المصيرية العامة"، - أقول ان هذا لا يعني شيئاً، عدا أنه متناقض، وتنتهي الجملة بما يُلغي ما بدأت به. فلا تقوم مدنية الدولة مع القبول باستمرار الأسس التي يقوم عليها العنف الديني – اللاهوتي في الحياة الانسانية. ولا يتحقق فصل الدين عن الدولة، مع بقاء الدين مؤسسات ومراجع تشريعية ممثلة في "طوائف". لا يتحقق الا اذا اصبح الدين ايماناً فردياً يلزم صاحبه، وحده. وتكون المؤسسة المدنية هي، وحدها، المرجع في كل ما يتعلق بشؤونه السياسية والاجتماعية والثقافية، وبحقوقه وحرياته.
ولا تُلغى "الطائفة"، طبعا، وانما تتغير: تصبح لمن يشاء، مناخاً روحياً، أو فضاء لاهوتياً.
-4-
الملاحظة الرابعة الاخيرة، وهي نوع من الرجاء أوجزها كما يلي: ما ينتظر من مسيحيي لبنان بخاصة، والعالم العربي، بعامة، ليس أن يتدبروا كيفية "العيش معاً" في الواقع السائد، وانما هو ان يعملوا على تغيير هذا الواقع، بوصفهم مواطنين مدنيين، وعلى التأسيس لمدنية الحياة العربية، بالمعنى الشامل، في القرن الحادي والعشرين، مستكملين في ذلك ما قاموا به، على صعيد الأدب والفكر، في القرنين التاسع عشر والعشرين.
إن دورهم اليوم هو في التأسيس لدولة الانسان، في ما وراء الانتماءات الدينية والاتنية. وهي دولة تكون، أو في وسعها أن تكون، منارة انسانية ومعرفية في حوض المتوسط الشرقي. بهذا تأخذ المسيحية في المشرق العربي وجهاً خلاقاً، نِدّاً لوجهها في الغرب. وفي هذا يكون لبنان اكثر من عنصر تنويري للعرب. يكون نموذجاً.
هكذا، كما كان لبنان طليعة التأسيس لثقافة عربية حديثة، يكون طليعة التأسيس لدولة مدنية حديثة – أعني لمجتمع عربي مدني، ولحياةٍ انسانية عربية مدنيّة.