المسيحيون العرب.. تحد حضاري إسلامي آت
بقلم إميل أمين
القاهرة، الثلاثاء 3 أبريل 2012 (
ZENIT.org). – جريدة الشرق الأوسط - هل بات الحضور المسيحي العربي التاريخي مهددا بالخطر في الأعوام الأخيرة لا سيما تلك التي أعقبت ظهور ما اصطلح على تسميته بالربيع العربي؟ حكما أن هناك أحاديث كثيرة جرت ولا تزال في هذا السياق، بعضها يؤكد والآخر يرى أن هناك مغالاة في الطرح، لكن الإشكالية الكبرى هي أن هناك خلف الباب من يقف متشوقا وباسطا أوراقه ليجعل من هذه القضية - على أهميتها - كعب أخيل جديدا لتقسيم المقسم، وتجزئة المجزأ عربيا، ما يعني أن الحديث عن مآل المسيحيين العرب بات يتماس مع الأمن القومي العربي من جهة، ويشكل تحديا للتعايش الحضاري الإسلامي - المسيحي عبر أربعة عشر قرنا من جهة ثانية، وهذا ربما كان التحدي الأهم في المسيرة الحضارية للعرب والمسلمين معا.
والشاهد أن هناك أسئلة بعينها تلقي بثقلها على المهتمين في هذا الإطار، منها ما هو تاريخي يتعلق بهذا الفصيل وهل هو دخيل على تلك الأمة، أم وافد على تلك الحضارة؟ هناك نحو 120 مرجعا حتى الآن، تؤكد على أهمية الدور الذي لعبه المسيحيون العرب، وبخاصة السريان منهم، في ترجمة علوم اليونان إلى اللغة العربية، ومنها على سبيل المثال «أسد الغابة في معرفة الصحابة» لعز الدين بن الأثير، «بدائع الزهور في وقائع الدهور» لمحمد بن أحمد بن إياس، «النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة» لأبي المحاسن بن تغري بردي، «تاريخ مختصر الدول» لابن العبري، ويطول العد. أما علماء المسيحيين العرب فقد أشارت مصادر كثيرة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن الإشارة إليها، إلى أنهم كانوا نحو 215 طبيبا، 63 ناقلا، 40 فيلسوفا ومنطقيا، و15 فلكيا، و10 رياضيين، 7 منجمين، 5 كيميائيين، 4 صيدلانيين، نسابة واحد، حجام واحد، اصطرلابي واحد.
والشاهد كذلك أن الباحث المتعمق في هذا السياق التاريخي يعلم جيدا مقدار الكرامة التي حظوا بها في صدر الدولة الإسلامية الوليدة، بل حتى قبل ظهور الإسلام، إذ يؤكد المستشرق «ولموزن»، على سبيل المثال، أن الكتابة العربية شاعت أولا بين المسيحيين ولا سيما الرهبان في الحيرة والأنبار، والعهدة هنا على الراوي الأستاذ «جواد علي» في كتابه «المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام».
ومما لا شك فيه أن التطورات التي شهدتها عدة دول عربية، لا سيما العراق بعد الغزو الأميركي، ومصر بعد ثورة 25 يناير (كانون الثاني)، مع الاختلاف الكبير في المشهد والظروف والآليات، كذلك فإن ما يجري في سوريا والتجاذبات والتصريحات الكثيرة التي أطلقت حول أوضاع مسيحيي سوريا، جميعها باتت مدعاة للقلق، وهو في حقيقة الأمر قلق مضاعف حال الأخذ بعين الاعتبار ما يجري في الداخل، ومن يترصد في الخارج مستغلا الأخطاء التي تجري في الأوطان لتحقيق وإدراك أهدافه، التي هي عادة ما تكون أبعد بكثير من البكاء أو التباكي على أحوال المسيحيين العرب.
ولعل الحديث عن الأقباط، على نحو خاص، يكتسب مذاقا متميزا بعينه، ذلك لأنهم الأكثرية العدية بين مسيحيي الشرق، وإن بقي عددهم غير معروف، وإن كنا لا نعول كثيرا على فكرة الأهمية العددية.
من هنا ربما يكون الحديث عنهم على سبيل الرمز، وهو من أسف رمز يحمل على الألم والأسى في الوقت ذاته، ففي تقرير صادر عن منظمة الهجرة العالمية بتاريخ الأول من مارس (آذار) الماضي نجد أن المنظمة الدولية تكشف عن تزايد حركة هجرة الأقباط من مصر بسبب ما ادعت أنه تعرضهم للاضطهاد من قبل السلطات والشعب، وبسبب انعدام الأمن ونقص فرص العمل وصعوبة الحياة بشكل عام.
الأمر كذلك ينسحب على مسيحيي العراق؛ إذ أشار التقرير ذاته إلى زيادة هجرة مسيحيي العراق خلال الفترة الماضية إلى دول الجوار بسبب انعدام الأمن حتى في شمال العراق الذي كان يعد من قبل منطقة آمنة بالنسبة للأقليات. ومع هذه الهجرات التي تكاد تقترب أو يخشى المرء أن تقترب من حالة النزوح، يتساءل المرء.. هل من مستقبل لمسيحيي الشرق الأوسط؟ وهل سيتمكنون من الحفاظ على بقائهم في القرن الحادي والعشرين؟ الجواب حتما متباين، فهو عند الأكاديميين العقلانيين ضرب من ضروب التحليل المنهجي العلمي، وعند آخرين فرصة سانحة للنفخ في نيران الكراهية وتأجيج العداوات.
النموذج الأول يمثله نفر من الباحثين الثقات، وفي مقدمتهم البروفسور «بول سالم» مدير مركز كارنيغي في بيروت، والذي كتب عبر صحيفة «لوس أنجليس تايمز» بتاريخ 6/ 1/ 2010 يقول: «باتت نسبة ما تبقى من المسيحيين الذين يتراوح عددهم بين 10 إلى 12 مليون نسمة لا تشكل أكثر من 5 في المائة من سكان المنطقة اليوم، مقارنة بـ20 في المائة مطلع القرن العشرين». ويكمل أنه «على الرغم من أن المسيحيين اضطلعوا بأدوار بارزة في الحركات الثقافية والقومية واليسارية، وتلك المناهضة للاستعمار في العقود المنصرمة، إلا أنه تم استبعادهم في السنوات الأخيرة من ظاهرة صعود الإسلام السياسي، كما رزحوا منذ عام 2001 تحت وطأة المواجهات بين الإسلام المتطرف والغرب (المسيحي)».
أما النموذج الثاني فيمثله الأكاديمي اللبناني المقيم في الولايات المتحدة الأميركية «البروفسور فؤاد عجمي» الذي يصمه البعض بأنه يميني متطرف، فقد كتب منذ فترة ليست بعيدة عبر صفحات مجلة «نيوزويك» الأميركية متسائلا عن الأقباط تحديدا، وهل من مستقبل لهم في مصر والمنطقة العربية.. ومن يحميهم مما سماه بالمطلق «التطرف الإسلامي»؟
ويجيب عجمي بالقول: «إن المسيحية تخوض معركة في الأرض التي كانت يوما ما مهدا لها».. وعنده أن المسيحيين العرب الذين يشفق عليهم كانوا سجناء لتيار وأفكار القومية العربية، وأنهم كانوا على يقين من أن عصرا جديدا من التنوير العربي سيوفر لهم مساحة من الحرية، لكنهم كانوا مخطئين بشكل مأساوي.
على أن أشد ما يلفت النظر في قراءة البروفسور بول سالم قوله: «التأكد من أن القرن الحادي والعشرين لن يكون الأخير الذي يشهد تعايشا مسيحيا - إسلاميا في مهد الديانتين، يستدعي تحركا إقليميا متسقا، واهتماما دوليا مشتركا».. هل يعني هذا الاستنتاج دعوة للاستقواء بالآخر الغربي الخارجي في مواجهة تبعات ما يجري في الداخل؟
عبر رصد عدد من التصريحات لقيادات مسيحية عربية مؤخرا يخلص المرء إلى وجود حالة شبة مطلقة لرفض هذا التدخل، وإن ما قصده البروفسور سالم هو لفت الانتباه إلى تداخل الخطوط وتشابك الخيوط في زمن العولمة، بين الداخل والخارج، وأن أحدا لا يعيش في جزيرة منعزلة بعيدا عما يجري في الجوار.
والمقطوع به أنه على الرغم من هذه الروح الإيجابية، فإن هناك من ينفخ في النار، ولولا يقظة فريق من هؤلاء المسيحيين المرابضين على حدود التعايش الحضاري والإنساني الإسلامي - المسيحي، لباتت المنطقة مسرحا للفتن الطائفية والعرقية... هل من مثال ندلل به على هذه المحاولات الاختراقية المستمرة؟
إليك ما تم الترويج له في نهاية شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي ونسب إلى مؤسسة راند الأميركية، التي تأسست كمنظمة بحثية غير ربحية بتمويل خاص عام 1948 لتقدم خدماتها لمختلف أفرع القوات المسلحة، ومكتب وزير الدفاع، ما يعني ارتباط أبحاثها وباحثيها بالخطط التوسعية والعسكرية الأميركية.
الرواية التي روجت في ذلك الوقت تحدثت عن توصية لـ«راند» بالبحث عن وطن بديل لأقباط مصر ومسيحيي الشرق، يمكن أن يكون وطنا قوميا لهم. وعلى الرغم من أن المؤسسة أنكرت لاحقا ونفت أنها قامت بمثل تلك الدراسة التي قادت لهذه النتيجة، فإن الأمر يمكن اعتباره نوعا من جس النبض وترويج الشائعات بعينها لقياس ردود الفعل تجاهها، وهي حيل وألاعيب استخباراتية معروفة للجميع.
على أن التحركات لا تنقطع ومحاولات تفتيت دول المنطقة، وعن حق، جارية على قدم وساق، وإلا فما المغزى والمبنى والمعنى من إعلان جامعة «جورج واشنطن» عن قيامها بأول دراسة حول الأقباط الذين يعيشون خارج مصر، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وكندا وأستراليا، وبخاصة أن الدراسة تتناول الإجابة عن تساؤلات من عينة: «ما الذي يحفز هؤلاء للبقاء على اتصال بمصر وأحوالها ومستجداتها السياسية؟ وما هي أنواع الأنشطة التي تقوم بها الجاليات القبطية؟
ولا يوفر القائمون على الدراسة القول إنها تستهدف الوصول إلى نتيجتين: الأولى هي زيادة الوعي الذاتي للأقباط في المهجر فيصبحون أكثر انخراطا في الأنشطة الداعمة لمصر، والثانية أن تتكون خريطة دقيقة عن أقباط المهجر لصناع القرار في مصر، وكذلك في المجتمع الدولي.
المجال يضيق كذلك عن سرد ما دار في لجنة «هلسنكي» في الكونغرس الأميركي من جلسة استماع بعنوان «من الربيع العربي إلى الشتاء القبطي: العنف الطائفي والصراع من أجل التحول الديمقراطي في مصر».
وكذلك لا مجال لتحليل ما قيل في لجنة التعاون والأمن في أوروبا تحت عنوان «الأقليات في خطر: الأقباط المسيحيون في مصر»، وجميعها تؤكد على أن هناك من يخطط لاستخدام هواجس الصعود الإسلامي لتحقيق مصالح تخصه، لكن، ونؤكد هنا على لكن هذه، عبر استغلال الثغرات التي تحدث داخل مصر أو غيرها من أخطاء تقارب الخطايا، تمثلت في هدم كنائس أو حرقها، وكذلك اعتداءات على الأقباط، وتقاطع ذلك مع حالة انعدام الأمن بدرجة ما في العام الأخير، ما دعا عددا من أعضاء الكونغرس الأميركي بدورهم لإثارة المسألة علانية.
على أن الطامة الكبرى، وهو أمر يستدعي حديثا مفصلا لاحقا، هي دخول إسرائيل على خط «نافخي النيران»، فبعد تصريحات نتنياهو التي تباهى فيها بجنة إسرائيل التي تعيش فيها الأديان مقارنة بأوضاع المسيحيين العرب، بعد ما سماه المد الأصولي الإسلامي المتطرف، خرجت علينا دراسة خطيرة لصاحبها البروفسور الإسرائيلي «يارون فريدمان» المحاضر في العلوم الإسلامية بجامعة الجليل، يشير فيها «إلى أن هجرة المسيحيين العرب خارج منطقة الشرق الأوسط، تعد أفضل المقاييس التي يمكن من خلالها تقدير قوة ونفوذ التيار الإسلامي في منطقة الشرق الأوسط».. هل لإسرائيل مصلحة في إفراغ الشرق من مسيحييه؟
نعم ولا شك، ذلك لأنه ساعتها لن تبقى هي الدولة العنصرية الدينية بمفردها في المنطقة.
هل الأزمة والتحدي تختص بمسيحيي الشرق؟ في تقديرنا أنها تحد يواجه أجيال الإسلاميين المعاصرين، وهم ليسوا أكثر إسلاما من المسلمين الأوائل ومن الفاتحين الذين حفظوا لمسيحيي الشرق صوامعهم وأديارهم، وما حالوا بينهم وبين مباشرة عقائدهم وطقوسهم، وهو تحد حضاري أخلاقي إيماني باتت عصبية وعنصرية القلة تتهدده في الداخل، وأشواق ومؤامرات الكائدين والكارهين تنتظره بشوق مقيت في الخارج، فهل ستعبر القوى الإسلامية المعاصرة، لا سيما السياسية منها، هذا المأزق الكبير؟ يأمل المرء أن يكون ذلك كذلك.