Les chretiens arabes reprendront-ils leur role national?
Salah Abou Jaoude
النهار ١٨/١١/٢٠١٢ صلاح ابو جوده
إقفال ملفّ "المسألة الشرقيّة" مع انهيار الإمبراطوريّة العثمانيّة وبداية زمن الانتداب، يواجه مسيحيّو الشرق العربيّ الأوضاع الأشدّ حراجة لهم في التاريخ الحديث والمعاصر، إن لجهة القلق على مصيرهم وإن لجهة بحثهم عن دورهم الوطنيّ. لذا، فلا عجب أن نلاحظ حالة ارتباك شديدة تسود مواقف المرجعيّات المسيحيّة الدينيّة والسياسيّة والثقافيّة إزاء حركة الربيع العربيّ ونتائجها في بعض البلدان. فالتغييرات الجارية لا سابق لها، ووجهة تطوّرها غير واضحة المعالم.
ساهم نشاط الإرساليّات الغربيّة الثقافيّ والتربويّ وانفتاح الكنائس الكاثوليكيّة على أوروبّا، أثناء زمن المسألة الشرقيّة، في نشأة نزعات وطنيّة وقوميّة في الأوساط المسيحيّة، تركّزت بشكل رئيسيّ على فكرة الدولة الوطنيّة أو القوميّة الوطنيّة المحصورة في فسحة جغرافيّة محدّدة، وعلى فكرة قوميّة عربيّة أو سوريّة تقوم على مبدأ العلمانيّة. ورافقت هاتين النزعتين مواجهاتٌ فكريّة بين أنصار العلمانيّة، وجلّهم من المسيحيّين أمثال نجيب عازوري وشبلي الشميّل وفرح أنطون، وأنصار إحياء الإسلام السياسيّ أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمّد عبده وعبد الرحمن الكواكبي ورشيد رضا.
ودارت تلك المواجهات الفكريّة في إطار شهد إخفاقات التنظيمات العثمانيّة التي بدأت في العام 1839 - في ظلّ نظام الامتيازات والضغوط الأوروبيّة - في تحديث الإمبراطوريّة على أساس إلغاء كلّ تمييز دينيّ وإقرار المساواة بين الجميع، وهذا مطلب نجده يتكرّر أيضًا في كتابات روّاد النهضة المسيحيّين. وقد نتج من هذه التطوّرات عشيّة إقفال ملفّ المسألة الشرقيّة: أوّلاً، أنّ الجماعات المسيحيّة أصبحت في المخيّلة الإسلاميّة عمومًا أشبه بحصان طروادة تستخدمه القوى الأوروبيّة في سباقها للسيطرة على أراضي الرجل المريض. وثانيًا، ربْط بعضُ القوميّين المسيحيّين، وبمفارقة لافتة، بين الانتماء الدينيّ والدولة الوطنيّة بحسب نموذجها الغربيّ الناشئ بقوّة على أساس العلمانيّة والديموقراطيّة، وإخفاق بعضهم الآخر في ترويج فكر علمانيّ يهدف إلى تأمين المساواة المدنيّة والوطنيّة مع المسلمين ضمن إطار يحفظ الخصوصيّات. وثالثًا، اشتداد ميل الأوساط الإسلاميّة إلى رفض الحداثة الغربيّة التي ميّزت بين الحقلَين الدينيّ والزمنيّ، وتمسّكها بفكرة الأمّة الإسلاميّة بصفتها واحدة شاملة ودينيّة وإن بقيت من دون مشروع عمليّ.
في أعقاب تأسيس الدول الوطنيّة في الشرق الأوسط في ظلّ الانتداب، وصوغ دساتير لها مستَلهمة في الكثير من موادّها من الدساتير الأوروبيّة، دخل المسيحيّون الحقل السياسيّ والوطنيّ بفاعلية إلى جانب قوى إسلاميّة محليّة اعتنقت الليبراليّة. غير أنّ تلك التجربة انتهت إلى فشل ذريع. وفي الواقع، اضطلع بدور سياسيّ رائد في تلك البلاد طبقة سياسيّة ميسورة، تمثّلت بحزب الوفد والحزب الوطنيّ في مصر، وحزب العهد والحزب الوطنيّ وحزب النهضة وزعماء قبائل في العراق، وحزب العهد والكتلة الوطنيّة وكبار التجّار في سوريا. ولكنّ هذه الطبقة الليبراليّة افتقدت برنامجًا سياسيًّا ووطنيًّا يُكسبها صدقية ويعزّز المواطنيّة والديموقراطيّة. بل على نقيض ذلك، فإنّ عملها السياسيّ انطبع بالصراع على السلطة، وعجز الحكومات المتتابعة عن إدارة الشؤون العامّة إدارة فعّالة، وتزوير الانتخابات، والفساد، وتغلّب المصالح الشخصيّة على المصلحة العامة. فكان البديل قيام الأنظمة العسكريّة التي اختارت التوجّه الاشتراكيّ المعاديّ للغرب ولتلك الطبقة الليبراليّة وبعض الأوساط المسيحيّة أيضًا التي انطبعت بصورة الاستعمار، ولا سيّما في أعقاب نكبة 1948. وبقي لبنان الدولة الوحيدة التي حافظت على نظامها الذي يجمع بطريقة معقّدة وواهنة بين مبادىء الدولة الوطنيّة والنظام الطائفيّ الذي كان في أساس حلول جميع الأزمات التي عاشها جبل لبنان إبّان الحكم العثمانيّ. غير أنّ هويّة لبنان بقيت غامضة المعالم، عاكسةً في الوقت عينه حذر شريحة كبيرة من المسيحيّين من محيطهم الإسلاميّ العربيّ وانفتاحهم على الغرب وثقافته، وحذر المسلمين من الغرب وتمسّكهم بمحيطهم وقضاياه.
في ظلّ الأنظمة العسكريّة التسلطيّة التي أظهرت عجزًا شاملاً في مواجهة التحديات الإقليميّة والدوليّة وتحسين الأوضاع الداخليّة، والتي نجحت في السيطرة بيد من حديد على مجتمعاتها، بدأ العالم العربيّ يشهد نهضة التيّارات الإسلاميّة المعتدلة والأصوليّة على السواء. لقد تعزّزت تلك التيّارات بوجه خاصّ مع تدجين المقاومة الفلسطينيّة كليًّا خارج فلسطين والتي كانت وريثة الحركة القوميّة العربيّة الثوريّة الأخيرة، وقيام الثورة الإسلاميّة في إيران. وقدّمت تلك التيّارات نفسها بديلاً من الأنظمة التسلطيّة، رافعةً شعار "الإسلام هو الحلّ". أمّا الأوساط المسيحيّة فتعدّدت مواقفها شأن سائر شرائح مجتمعات تلك الأنظمة. ففي حين كانت المرجعيّات الدينيّة المسيحيّة مؤيّدة للأنظمة أسوة بالمرجعيّات الإسلاميّة الرسميّة، ارتفعت أصوات مسيحيّين تعارض الاستبداد، ولا سيّما في دول الانتشار، وآثرت الغالبيّة الخضوع للأمر الواقع كما غالبيّة مواطنيهم المسلمين.
لم يوفّر هذا الموقف للمسيحيّين المساواة والأمن والاستقرار تمامًا، على الاقل في العراق ومصر. ففي مصر، بقي الأقباط يشعرون أنّهم مواطنون من درجة ثانية، وبقيت كنائسهم وبعض مؤسّساتهم تتعرّض بشكل متقطّع إلى اعتداءات نُسبت إلى السلفيّين. غير أنّ بعض أقباط المهجر كانوا يتّهمون النظام بها صراحةً كونه المستفيد الأوّل منها، إذ يتّخذها عذرًا ليتهرّب من الإصلاحات الديموقراطيّة وليُبقي على سياسة البطش. وفي العراق، عرف المسيحيّون حركات هجرة كبيرة في أثناء الحرب العراقيّة-الإيرانيّة، وبعد تأميم أراض واسعة لهم في سهل نينوى، ومن ثمّ في أثر حرب الخليج الأولى عندما أعلن الحكم "الحملة الإيمانيّة" وتحويل حزب البعث حركة إسلاميّة. غير أنّ مأساة المسيحيّين العراقيّين الكبيرة بدأت عام 2005، إذ تعرّضوا لعمليّات إرهاب تارة بحجّة تعاملهم مع الجيش الأميركيّ، وتارة للانتقام من مظالم تلحق بالمسلمين في بلدان أخرى، وفي بعض الأحيان من دون أيّ سبب. فكانت النتيجة مغاردة ما لا يقلّ عن نصف مليون مسيحيّ العراق في ظلّ تقصير فاضح للقوى الأمنيّة والمراجع الحكوميّة والقضائيّة، وانحصار غالبيّة من تبقّى منهم في إقليم كردستان حيث يسعون الآن لإقامة محافظة أقليّات.
تكمن مأساة مسيحيّي العراق، في الواقع، في أصل القلق الراهن على المصير الذي يعتري الأوساط المسيحيّة العربيّة والتي أتت نتائج الربيع العربيّ لتزيد من تفاقمه. ففي مصر، يجري الكلام على 95 ألف قبطيّ غادروا البلاد منذ نجاح ثورة "25 يناير" بسبب الاضطهاد الذي يطاولهم وبروز مخاطر أسلمة المجتمع. فقد هُدمت ستّ كنائس منذ الثورة، وقتل العديد من الأقباط في أحداث اتّخذت طابعًا طائفيًّا، كان أقساها ما بات يُعرف بمذبحة "ماسبيرو" التي قمع الجيش فيها تظاهرة سلميّة تطالب بحريّة بناء الكنائس واحترام المقدّسات. وعلى الصعيد السياسيّ، لم يحظ الأقباط بمراكز كافية في الحكم الجديد، في وقت تزداد فيه المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلاميّة التي لا تضمن المساواة بين المسلمين وغير المسلمين. أمّا في سوريا فأحداثها الكارثيّة تؤدّي إلى فوضى متزايدة تُهدّد الجميع فيها بمن فيهم المسيحيّون الذين يجدون أنفسهم عالقين بين بطش النظام وثورة لا أحد يعرف إلى ماذا ستنتهي.
هل من مخرج؟ يبيّن الإرشاد الرسوليّ الذي وقّعه البابا بينيديكتوس السادس عشر في أيلول الفائت في لبنان، أنّه لا يمكن المسيحيّين أن يكونوا في موقع سلبيّ كمن ينتظر نهاية التطوّرات ليكتشف دوره، بل بصفتهم يتمتّعون بمواطنة كاملة، عليهم واجبات المواطنة كما حقوقها. وفي هذا السياق، يبدو أنّ الدور المميّز الذي يمكنهم الاضطلاع به في هذه الظروف، ولا سيّما في ضوء مأزق الحكم الإسلاميّ الحاليّ، من خلال مؤسّساتهم التربويّة والثقافيّة وخصوصًا الإنتلجنسيا المسيحيّة، هو تنقية الديموقراطيّة التي لطالما بدوا ممثّليها من اللون الدينيّ الذي اصطبغت به منذ زمن المسألة الشرقيّة. فتحرير الديموقراطيّة من البُعد الدينيّ، والمناداة بها علانيةً وبجرأة بصفتها قيمةً إنسانيّة صرف (لا مسيحيّة)، مع ما تفترضه من "علمانيّة إيجابيّة" وحريّة دينيّة، والتنشئة على قيمها في البرامج التربويّة، والشهادة لها في العمل السياسيّ والاجتماعيّ، تمثّل الدور الرائد والمميّز الذي يستطيع المسيحيّون بلا شكّ القيام به، وهذا يلتقي أيضًا وتوجّهات أوساط ليبراليّة أخرى في المجتمعات العربيّة لا يُستهان بوزنها.