بقلم جورج عبيد -tayyar org
يوجعني كما يوجع كثيرين أن يطلّ أسبوع الوحدة من أجل وحدة الكنائس، ككلّ سنة، ويظلّ المسيحيون على انقساماتهم، مكتفين بالصلاة ومهملين العمل من أجل تجسيد الوحدة وتفعيلها من أجل كمال البنيان ووحدته. يعيدنا هذا الأسبوع عينًا إلى صلاة يسوع قبل آلامه الرهيبة حين صلّى لأبيه قائلاً: "يا أبتي القدوس إحفظهم باسمك الذي وهبته لي ليكونوا واحدًا كما نحن واحد" (يو17: 7). تجليات أسبوع الوحدة تجيء من دعاء الرب وإصراره أن يسطع المسيحيون في وحدانية الثالوث، ثالوث المحبة.
ثمّة من تلمّس في القرن الماضي ضرورة الصلاة على تلك القاعدة، من القس الأنغليكانيّ بول واتسون سنة 1908، إلى الأب الفرنسيّ بول كوتورييه سنة 1932، وقد نبع تلمسهما للصلاة كلّ من زاويته وبيئته، من إحساس راق، بأن صلاة المؤمنين تملك القدرة بطهارتها ونقاوتها للارتقاء نحو صلاة يسوع والتماهي بها والتعبير عنها وتثميرها في الحيّز البشريّ. لقد ترافقت الصلاة مع مجموعة حوارات مسكونيّة قاربت الخلافات اللاهوتية والانقسامات البنيويّة، منها ما جاء على كثير من التشنّج ومنها ما جاء على سلاسة بهيّة أبطلت المفردات والعبارات القاتلة، لتتقارب الإرادات متخليّة عن نرجسيات تاريخيّة بفتح صفحات جديدة ومشرقة من التواصل والتلاقي.
بدء تلمّس الوحدة التعالي عن الجراح وتضميدها بزيت الابتهاج والسعي إلى القفز فوق الاعتبارات القوميّة في بعض النواحي، والتخلّي عمّا سمي بالاقتناص Proselytism بين الكنائس كما حصل فور سقوط الاتحاد السوفياتي في روسيا لتستغلّه الإرساليات الكاثوليكيّة بممارسة التبشير لشعب مسيحيّ بجوهره وقد ذاق خلال الحكم الشيوعي مرارة الشهادة من أجل الإيمان، وقد طوى لقاء هافاتا في كوبا بين البابا فرنسيس والبطريرك كيريل تلك الصفحة، وكما حصل خلال الأحداث السوريّة باستغلال بعض الإرساليات لواقع المسيحيين في وادي النصارى وريف حماه لتجذير وجودها وتثميرها على أرض مسيحيّة يعيش شعبها إيمانه ببهاء كبير، أو كما حصل خلال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين حين استغلّت الإرساليات اليسوعية والإنجيليّة ببعثاتها واقع المسيحيين الأرثوذكس في جبل لبنان والكورة ومرجعيون وزاوجت بين التبشير والعلم والمعرفة لضمان بقائها في بلاد المشرق، وقد أظهر المؤرخون أنّ جزءًا منها كان يمارس أشكالاً من الاستعمار وترافق بدوره مع مراحل الانتداب الفرنسيّ، على الرغم من المساهمة في النهضة التربويّة والجامعيّة في بلادنا، وتزخيمها بأشعّة النور.
ثلاثة أسس تسمح لنا بتخطّي الجراح التاريخيّة الثقيلة المكتنفة لعلاقة المسيحيين وعلاقة الكنائس ببعضها البعض، وعلاقة الشرق بالغرب.
-الأساس الأوّل التخلّي عن منطق الاقتناص، إقتناص كنيسة لأخرى. هذه مسألة تحتاج لكثير من التفهم بأن المسيحيّة الكاثوليكيّة والمسيحية الأرثوذكسيّة غير منفصلين في الفهم اللاهوتيّ الدقيق للتعاليم وكتابات الآباء وصولاً إلى نصوص المجامع المسكونيّة. فما معنى أن تبشّر كنيسة أو إرسالية في منطقة أو بلاد لها الإيمان عينه ويتجلون بالرؤى المسيحيّة الصافية؟! لقد تبيّن وفي هذا المعطى بأنّ مفهوم الاقتناص استدخل إلى مفاهيم سياسيّة واستعماريّة تتخطّى علاقة الكنائس إلى علاقة الدول أو علاقة الكيانات ببعضها البعض.
-الأساس الثاني عدم ربط المسيحيّة الشرقيّة أو الغربيّة بأنماط قوميّة جامدة تؤثّر على السعي لتأمين التقارب والوحدة، وتجعل النزاعات متفاعلة تؤدّي إلى ثقافة حروفية منسابة في أبناء الكنيستين. وفي بعض المداولات المسكونيّة ظهرت بعض النتوءات الفاقعة والثغرات الفارغة استدخلت المنطق الكنائسيّ بها وجعلته يتفاعل في جوفها وينطق بحدود بعيدة باسمها. ويتضّح تدريجيًّا أن منطق الاستدخال المقيت، ساهم بالمزيد من التمزّق وأبعد تجسيد منطق الوحدة، أقلّه الاتفاق المنتظر منذ سنوات طويلة على توحيد عيد الفصح بين الكاثوليك والأرثوذكس. وفي هذا المجال لنا بعض الأمثلة منها أنّ الكرواتيين الكاثوليك والصرب الأرثوذكس، لم يلملموا جراحاتهم ولم يخرجوا من الذاكرة المتورمة، ولم يتحرروا من أحقادهم المتبادلة. وتلك طامة كبرى وخطيرة يفترض بالكنيستين الكاثوليكيّة والأرثوذكسية العمل الحثيث والدؤوب للتحرر منها. وحين تم طرح توحيد توقيت عيد الفصح اعترض الصربيون ورفضوا المسألة من أساسها.
-الأساس الثالث عدم استخدام العبارات والمألفات اللاهوتية وجذبها أو ربطها أو تعليبها لصراعات تحاول فيها كل كنيسة إثبات استقلاليتها. وبشيء من الواقعيّة، فقد ثبت بأنّ مسألة العصمة البابويّة قد تلوهتت أكثر من اللزوم، في حين أنها غير مرتبطة بسياق لاهوتيّ. الكنيسة الكاثوليكيّة وعلى مرّ العصور والسنوات وبعيد الانشقاق جعلت تلك المسألة جوهريّة بالنسبة إليها، في حين أن الكنيسة الأرثوذكسية رأت بأنها غير واردة. فليس من منطق يقول بأن بابا روما معصوم ولا يخطئ، وليس من منطق يقول بأن البطاركة الأرثوذكس لا يخطئون. على هذا يفترض أن يتكثّف الحوار بين الكنيستين ويتجلّى باتجاه أطر تنظيميّة تحفظ لبابا روما دوره الطليعيّ في رئاسته للكنيسة، فلا يصهرها بنظام هرميّ، ولا يسمح بتلاشيها بنظام فوضويّ، فالنظامان أديا إلى فراغ أوروبا بصورة شبه نهائيّة من المسيحيّة، كما أديّا في الوقت عينه من فراغ المشرق مهد المسيحيّة منها. التلهّي بهذه المسألة بالذات أدت إلى نتائج كارثيّة على الواقع المسيحيّ بصورة عامّة من دون نسيان بأنّ عامل الاضطهادات والحروب تكثّف في المشرق، وبسبب عدم وضوح الرؤى في المسائل التنظيميّة تعثّرت الكنائس في مواجهاتها لهذه الاستباحات العلمانويّة الملحدة من جهة والإسلامويّة-التكفيرية من جهة أخرى.
أمام تلك اللوحة، ثمّة عرض بإمكان الحوار المسكونيّ بين الكنيستين أن يدرسه ويقيم له وزنًا. يقوم هذا العرض على إحياء حركة تنظيميّة جامعة بين كنيسة روما والكنائس الأرثوذكسيّة المستقلّة تعطي لبابا روما إمكانية الإشراف المباشر على الكنائس في أوروبا والغرب عمومًا، وإمكانية الرعاية للكنائس الشرقية من دون اقتحام انصهاريّ لمجامعها المقدسة وبلا تدخل مباشر في انتخاب البطاركة والأساقفة. ذلك أنّ كل كنيسة تحيا في مضمونها التراثيّ وفي إرثها الآبائيّ، ولها طقوسها الحيّة النابضة بلغاتها. منطق الإشراف المباشر هناك والرعاية هنا، يتوجان بصورة تدريجيّة مبدأ الوحدة المحافظة على التنوّع التراثيّ والطقوسيّ والتنظيميّ أي تحافظ على هيكليّة الكنائس، كما هو قائم على سبيل المثال عند البطاركة الكاثوليك في الشرق.بما معنى أن كلّ كتيسة بقيت على حالتها التنظيميّة ضمن العالم الكاثوليكيّ الجامع لها. وفي الوقت عينه ولكون العبارات والمألفات اللاهوتيّة ارتبطت بحدود كبرى باستقلالية الكنيستين كمثل انبثاق الروح القدس من الآب والابن، ومألفة الحبل بلا دنس وما إلى ذلك، فيتمّ تقييمها بروح المحبة المسيحية الجامعة، علمًا أنّ السياق اللاهوتيّ هو عينه في الكنيستين بجوهره الكامل أي في مسألة التجسّد والصلب والموت والقيامة.
من المعيب، أن تبقى الكنيستان أسيرتيّ التاريخ والفكر الماضويّ، ومن المؤلم بل المخزي أن ترث الأجيال المسيحية ثقافة التعصّب وقيم التمزّق. لا يعني هذا أن لا مشاكل بنيويّة داخل كلّ كنيسة. لقد دخلت كلّ كنيسة في منطق التحارب البنيويّ كما يحدث في الكنيسة الأرثوذكسيّة بين القسطنطينيّة وروسيا، وبين أنطاكية وأورشليم. فالممارسات الشاذّة هنا وثمّة أباحت بقرارات مؤلمة على صعيد الوحدة حتى ضمن العالم الأرثوذكسيّ. وللأسف فإنّ التراكمات المشوبة بكثير من الميوعة والترف والدلع، أفقدت المسيحية الكونيّة ثقافة الوجود ومبدأ الدفاع عنه بصلابة ومتانة، أفقدت المسيحية القدس وبتعبير أدقّ قدس أقداسها بلا مقاومة وإدانة لما يقوم به بطريرك أورشليم الأرثوذكسيّ وللا احتضان كيانيّ ووجوديّ لأهلنا المسيحيين المقدسيين الذين لهم الحقّ الأوّل فيها، وبلا مقاومة شاملة لقرار أميركيّ بغيض وجائر، وأفقدت المسيحيّة الكونيّة قدرة الدفاع المستميت عن وجودها في المشرق العربيّ وهو وجود مقدّس لصيق بالتراث الآبائيّ الممدود من أورشليم إلى أنطاكية ومن أنطاكية إلى العالم كلّه. والخطورة في كلّ ذلك يتجلّى في غياب المحبة المجانية بين الكنائس. كيف تحيا الكنائس بر محبة المسيح لها وبلا ترجمة وتجسيد لمحبة المسيح فتصير محبة بين الإخوة تبعث المناعة والمتانة وتجسد قيم الوحدة الصافية فتعيش الكنائس وتبيت في وحدانية الثالوث القدوس وهو ثالوث المحبّة؟ هذا السؤال هو الأخطر في كلّ النقاش الدائر والباحث عن الوحدة.
جميل جدًّا أن نحيي تراثًا وجد مع القس واتسون واستكمل بتوسّع مع الأب كوتورييه، ولا نزال نستعذبه ونستطيبه. فهو يفيض ندى بصلوات مشتركة وبتراتيل جامعة بين جوقات مشتركة. لكنّ التجمّد في جوف المألفات الحروفيّة، والتجلّد في عمق الخلافات التنظيميّة، والتبلّد في الوثبات المشتركة المحيية، سيتيح ويبيح بانفراط الوجود المسيحيّ لا سيّما في هذا المشرق المشرف على أنماط سياسية بقوالب جيو-استراتيجية جديدة.
وحدتنا في المسيح يسوع يبقى الهدف الأسمى والأسنى والأعلى. ليس من هدف آخر سواه. توحيد عيد الفصح في المشرق العربيّ يمتلك خصوصيّة استثنائيّة إذا ظلّ ذلك متعثّرًا على المستوى المسكونيّ والكونيّ. يفترض بالمسيحيّة المسكونيّة والكوونيّة أن تستثني فرعها المشرقيّ بسبب ما يحدث من خضّات وتمزقات واحترامًا لخصوصيات جامعة اجتماعيًّا وتراثيًا. وبرأيي كثيرين إن توحيد العيد، قد يكون المدخل الطيب لوحدة مرتجاة.
الوحدة إرادة وجوديّة جامعة. الله بوليده الإلهي أنشأك عليها، وائتمنك على التمسّك بها، ويقودك لديمومتها. هل من المعقول أن تبقي الخلافات بين الكنائس على المسيح معلّقًا على الخشبة؟ ليست المشكلة محصورة فيما يمارس من اضطهادات، بل في خلافات ليس لها أن تحلّ إلاّ إذا أقبل الجميع إلى بعضهم وتخلّوا عن الماضويات القاتلة والعبارات النافية والكتابات العازلة والنافرة. الصلاة حلوة وضروريّة، لكنّ الصلاة مقرونة بالعمل والنضال تقود حتمًا إلى وحدتنا في المسيح يسوع وتقود إلى رضاه علينا، فيبقى ثابتًا وواحدًا فينا إلى منتهى الدهور وأبد الآباد.