رسالة صاحب الغبطة البطريرك غريغوريوس الثَّالث بطريرك أنطاكية وسائر المشرق والإسكندريَّة وأورشليم للرُّوم المَلَكيِّين الكاثوليك بمناسبة عيد الميلاد المجيد
بقلم البطريرك غريغوريوس الثالث لحام
الربوة, 23 ديسمبر 2014 (زينيت) - رسالة صاحب الغبطة
البطريرك غريغوريوس الثَّالثبطريرك أنطاكية وسائر المشرق والإسكندريَّة وأورشليم
للرُّوم المَلَكيِّين الكاثوليك
بمناسبة عيد الميلاد المجيد
25 كانون الأوّل 2014
من غريغوريوسَ عبدِ يسوعَ المسيح
برحمةِ الله تعالى
بطريرك أنطاكية وسائر المشرق
والإسكندريّة وأورشليم
إلى الإخوة السَّادة المطارنة، أعضاء المجمع المقدَّس الموقَّرين
وسائر أبنائنا وبناتنا بالمسيحِ يسوع، إكليروسًا وشعبًا،
المدعوِّين قدِّيسين، مع جميع الذين يَدعُون باسم ربِّنا يسوع المسيح، ربِّهم وربِّنا
نعمةٌ لكم وسلامٌ من الله أبينا، والرَّبِّ يسوع المسيح (اكور: 1-3)
"الآن تُطلق عبدكَ بسلام"
التجسُّد لقاء!
عيد ميلاد ربنا وإلهنا ومخلّصنا يسوع المسيح بحسب الجسد
25 كانون الأول 2014"الآن تُطلق عبدكَ بسلام"
التجسُّد لقاء
"الآن تطلق عبدكَ بسلام! فإنَّ عينيَّ قد أبصرتا خلاصك! نورًا ينجلي للأُمم"(لوقا 2، 29-31)
هكذا صرخ سمعان الشيخ الجليل، عندما تقبَّل على ساعديه سيِّد الخليقة، طفلاً جديدًا، وهو الإله الذي قبل الدهور!
وأصبح حدث لقاء سمعان الشيخ في الهيكل مع السيِّد المسيح عيدًا. وهو خاتمة سلسلة الأعياد والأحداث المتعلِّقة بعيد الميلاد المجيد. ويدعى عيد دخول السيِّد المسيح إلى الهيكل. وباللغة اليونانيَّة يسمَّى إيباباندي بما معناه في العربيَّة: اللقاء!
عيد اللقاء
في ذلك إشارة إلى لقاء الطفل يسوع بالشيخ سمعان الذي كان ينتظر مجيء المخلّص إلى العالم. وفي الواقع فإنَّ صلوات وأناشيد هذا العيد تزخر بالإشارات إلى هذا اللقاء العظيم بين الله والإنسان الذي تحقّق بالتجسّد.
ففي هذا العيد يلتقي العهدان القديم والجديد. كما يلتقي الشباب والطفولة بالشيخوخة في شخصي سمعان الشيخ وحنّة النبيّة المتقدِّمة في السن. وأبعد من ذلك تلتقي شريعة العهد القديم مع النعمة في شخص المسيح. وهذا ما يقوله القدّيس يوحنا الرسول في مطلع الإنجيل: "إنَّ الناموس قد أُعطي بموسى، وأما النعمة والحقيقة فبيسوع المسيح قد حصلا" (يوحنا 1، 17).
عيد اللقاء! كلمة تتردَّد أكثر من أي وقتٍ مضى، حيث تجري اللقاءات على مستويات مختلفة، ولكنَّها للأسف لا تحمل الخير المرتجى منها. ذلك أنَّ الله غريب عن هذه اللقاءات. أمَّا الله فهو الذي يفتِّش عن الإنسان لكي يلاقيه ويملأ حياته خيرًا وبركة وسعادة. وهذا هو موضوع الأعياد الميلاديَّة المقدَّسة التي يشكِّل هذا العيد خاتمتها.
إنَّ أول لقائنا مع الله قد تمّ عندما قُدِّمنا صغارًا إلى الهيكل على مثال المسيح. ثمَّ التقينا بالمسيح، لا بل لبسناه في سرّ المعموديَّة المقدَّسة. ونلاقيه في باقي الأسرار المقدَّسة وخاصَّة في سرّي التوبة والإفخارستيَّة وفي الصلاة، ومن خلال حياة النعمة، ومن ثمّ عن طريق دعوتنا المسيحيَّة في خدمة القريب والمجتمع.
الشوق إلى الله
هو الشوق إلى المسيح الذي يحمل سمعان الشيخ ليذهب إلى الهيكل. إنَّه شوقٌ دفينٌ في قلب سمعان الشيخ. وهناك قصَّة طريفة حول هذا اللقاء بين سمعان والمسيح. وقد قرأتُ هذه القصَّة في كتاب بالفرنسيَّة، واطَّلعت على القصَّة من خلال الإيقونات المقدَّسة التي نجدها في الدير الذي يحمل اسم القدّيس سمعان الشيخ وهو من القرن الحادي عشر، ويقع على تلة في القدس تُدعى "تلَّة سمعان".
إيقونات الدير تروي لنا بالألوان هذه القصَّة الطريفة. وأعتبرها قصَّة مسيرةِ إيمانِ سمعانَ الشيخ، لا بل قصَّة مسيرة الإنجيل.
القصَّة كالتالي: عندما تفرَّقاليهود في العالم بسبب الاضطهاد والسَّبي البابلي، انتشرت بينهم اللغة اليونانيَّة. وشعروا بالحاجة إلى ترجمة التوراة إلى اليونانيَّة. وتسمَّى تلك الترجمة في لغة العلماء: السبعينيَّة. وهي التي تعتمدها الكتب الطقسيَّة وسواها في الكنيسة اليونانيَّة البيزنطيَّة. وتدعى كذلك لأنَّ سبعين عالماً يهوديًّا من علماء الناموس في الإسكندريَّة، المدينة اليونانيَّة بامتياز فهي مدينة القائد اسكندر المقدوني اليوناني، أكبُّوا على ترجمة التوراة من العبريَّة إلى اليونانيَّة وتقاسموا العمل. وقد أُوكل إلى سمعان الشيخ (وكان شابًّا) أن يترجم مع رفيق له نبؤة أشعيا النبي. وكان ذلك في القرن الثاني قبل المسيح.
وبدأت الترجمة. ووصل اليهوديان سمعان ورفيقه إلى الفصل الفصل السابع من نبوءة أشعيا النبي حيث ورد النص المشهور: "ها إنَّ العذراء تحبل وتلد ابنًا وتسميه عمانوئيل ومعناه الله معنا!" (أشعيا 7، 14). والتبس عليهما الأمر وتعثَّرت الترجمة. فهما أمام سرٍّ عظيم يفوق الإدراك. ما العمل؟ وقفا حائرَين. ولكن وجدا أنَّهما لا بدَّ وأن ينقلا النصَّ كما هو في اللغة العبريَّة، حتى ولو كان النص يفوق فهمهما.
لكن سمعان كان الأكثر شكًّا وتردُّدًا أمام النصِّ والسرّ الكامن وراء النص. فاختلى بذاته متأمِّلاً في هذا السرّ العجيب! والشكوك تُساورُه وتؤرِّق لياليَه... ولكنَّه لم يرَ بُدًّا من الترجمة حسب الأصول: العذراء... تحبل... وأراد علامة أو برهانًا لفهم السرّ! ولكن عبثًا... ففكَّر فكرة غريبة وقال: سألقي بخاتمي في بحر الإسكندريَّة وإذا وجدتُهُ يومًا ما، فذلك علامة أنَّ هذه الآية الغريبة ستتحقَّق! وأنَّ العذراء ستلد ابنًا وتبقى عذراء! وهكذا فعل.
وانتهى من الترجمة. وعاد إلى القدس، وسكن في الدار التي أصبحت لاحقًا ديرًا على اسم سمعان، كما ذكرت. وعاش في ذلك البيت. وشوقه يزداد يومًا بعد يوم! وقد عيل صبره! لكن إيمانه بالله قوّاه على الصَّبر.
وحدثَ أنَّه ذهب إلى مطعم لكي يتغدَّى على البحر. وطلب سمكًا. واختار السمكة التي يريدها وطهاها له النادل. ويا لَدهشته، فقد وجد خاتمًا في فم السمكة. فحمل الطبق والسمكة عليه والخاتم! وقال لسمعان: لقد وجدنا هذا الخاتم في فم هذه السمكة التي اخترتَها. فهوذا الخاتم! ويا لَدهشة سمعان حين تحقَّق أنَّ الخاتم الغريب هو خاتمه! ويبدو أنَّ السمك يحبُّ الأمور الحادَّة وتساعده على حمل بيضه داخل فمه [وهذا ما قاله يسوع لبطرس من أنه سيجد في فم أول سمكة يصطادها ما يكفي لدفع الجزية (متى 17، 27)]. وهكذا كان مع السمكة التي اختارها سمعان، فقد حملت في فمها خاتمه الذي سبق أن ألقاه في بحر الإسكندريَّة.
وهذا الأمر كان علامة له أنَّ نبؤة أشعيا ليست خيالاً ولا أسطورة بل حقيقة. وأنَّ هذه الأعجوبة الخارقة ستتحقَّق. وعلى هذا توجَّه إلى الهيكل في القدس يقودهُ الرُّوح القدس ويَحدوه الشوق والتَّوق والحنين ولهفةٌ عارمة أنَّه سيرى المسيح ابن البتول العذراء التي تكلَّم عنها النبيُّ أشعيا!
وهذا ما حدث في الهيكل، حيث رأى سمعانُ الشيخُ مريمَ تحمل الطفل يسوع مع أبيه يوسف، وتُقدِّمه إلى الهيكل. فما كان منه إلاّ أن تَقدَّم وحمل الطفل يسوع على ساعدَيه، وتفوَّه بهذا النشيد ومطلعه: الآن تُطلق عبدك أيُّها السيِّد بسلام! وهو النشيد الذي ننشده كلّ يوم في آخر صلاة الغروب في الطقس اليوناني البيزنطي. وكأنَّنا نودِّع الحياة ونستقبل حياة أخرى مع كلّ مساء، مستعدّين لاستقبال ملك الكلّ! تمامًا كما فعل سمعان. ويصلِّي الكاهن هذا النشيد في آخر الاحتفال بليترجيا القدّاس الإلهي. وهذا نصّه الكامل:"الآنَ تُطلِقُ عَبدَكَ. أَيُّها السَّيِّد. على حَسَبِ قولِكَ بسلام. فإِنَّ عَينَيَّ قَد أَبْصَرَتا خَلاصَكَ. الَّذي أَعدَدتَهُ أمامَ وُجوهِ الشُّعُوبِ كُلِّها. نُورًا يَنجَلي لِلأُمَم. ومَجدًا لشعبِكَ إسرائيل" (لوقا 2، 27-29).
هذا هو الحدث الذي نعيِّد له في الثاني من شباط تحت اسم دخول السيِّد المسيح إلى الهيكل! أو عيد اللقاء.
اللقاء: غاية التجسُّد والميلاد
غاية التجسُّد – هذه العقيدة المسيحيَّة الصعبة على المسيحي (وعلى غير المسيحي اليهودي والمسلم وسواهما)، هو لقاء الله مع الإنسان ولقاء الإنسان مع الله بالمقابل. الله يلاقي الإنسان في الخلق. في لوحة مايكل أنجلو في الفاتيكان، نرى الخلق في حركة لقاء: الله يمدُّ يده إلى آدم! وهذا هو الخلق! ومجمل أحداث الإنجيل لقاء. يسوع يمدُّ يده ويلامس الإنسان، مشاعرَه، جروحَه، نفسَه، ألمه، شكَّه... في إيقونة القيامة: المسيح ينزل إلى الهاوية (إلى الجحيم) ويمدُّ يده إلى آدم وإلى حواء، ويُنهضهما من القبر! من الموت! وهكذا فإنَّ أحداث الإنجيل هي أحداث لقاء.
آدم وحواء يلتقيان ليعطيا الحياة! ويُصبحان الزوج الأوَّل: لقاء النفس الجسد... لقاء الحياة معًا! ولهذا يقول الكتاب: الويل للوحيد! ويقول الله: "ليس حسنًا أن يبقى الإنسان وحده. فلنصنع لهُ معينًا على شبهه" (تكوين 2، 18) وصنع الله المرأة من داخل الرجل، من ضلعه (من أراحيف جسمه ومشاعره) وقدَّمها إلى آدم! الله يدعو إلى اللقاء! هو إشبين اللقاء الدائم... هو عراب وإشبين لقاء آدم وحواء... وهو المرافق لهذا اللقاء... حيث نراه يتمشى في الجنة وينادي آدم وحواء... وكأنَّه يريد أن يقضي معهما بعض الوقت... ولكنهما إختبئا... النعمةُ هي في أساس اللقاء مع الله! والخطيئة هي سبب البعادِ عن الله، وقطعِ التواصل مع الله، وقطعِ العلاقات مع الله! والعهدِ مع الله...
العهد القديم والعهد الجديد: هكذا تسمَّى الكتب المقدَّسة! إنَّها كتب العهد! كتب اللقاء! وأحداث العهد القديم كلّها تروي لنا لقاءاتِ الله مع شعبه، وصعوباتِ ونكساتِ هذه اللقاءات... وفشلَ الكثير منها... والدعواتِ المتكرِّرة التي يطلقها الله ليلاقي شعبه. وهذا هو دور الأنبياء أن يُعيدوا علاقة الشعب مع الله، علاقة الإنسان مع الله... وأتى دور المسيح يتوِّج دور الأنبياء! ولكنَّه لا يدعو إلى اللقاء! بل هو موضوعُ اللقاء والشخصُ الذي نلتقي به بالتجسُّد والإيمان والأسرار... إنَّهُ لا يدعو إلى لقاءِ شخص آخر... بل يدعو إلى اللقاء معه قائلاً: أنا الطريق والحقّ والحياة (يوحنا 14، 6) من يتبعني لا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة (يوحنا 8، 12).
يسوع معلِّم اللقاء
يسوع هو معلِّم اللقاء الأكبر! وهو من نلتقي به! هلمُّوا فقد وجدنا المشتهى! (يوحنا 2، 41) أأنتَ الآتي أم ننتظر آخر! (لوقا 7، 20) إلى أين نذهب؟ إنَّ كلمات الحياة الأبديَّة هي عندك... (يوحنا 6، 68) إتبعني! كلمة تتردَّد مرارًا في الإنجيل... ويسوع لم يترك فرصة تفوته إلاَّ والتقى فيها الإنسان في الإنجيل: الكبار والصغار، الرسل، الأطفال، الشيوخ، النساء والرجال، المرضى والأصحَّاء، الأطفال، الفريسيين وسواهم، الخطأة، وحتى الأموات: أنهضهم ليلاقيَهم... وتلميذَي عماوص. وكان يسير على دروب الناس كل الناس... لا بل هو الذي يبادر ليلاقي الناس. واسمحوا لي أن ألجأ إلى تعبير شعبي: (إنَّه يتحركش بالناس)... والأمثال كثيرة: لقاؤه مع السامرية (لم يكن على برنامج يسوع)، ولقاؤه مع أرملة نائيم وإنهاض ابنها الوحيد (لم يكن في البرنامج) ولقاء زكا (خارج البرنامج) والأعمى... ولنقل بالحري هؤلاء كلّهم كانوا في برنامج حبِّ يسوع... لأنَّه أحبَّ الإنسان وإلى الغاية أحبَّه... ولم يبغض أيًا ممن خلقهم... بل أتى لكي تكون لهم الحياة وبوفرة... وأتى ليجمع أبناء الله المتفرِّقين إلى واحد... وليس لأجل واحد أو نُخبة من الأمَّة اليهوديَّة التي أرادت أن تحتكره وتحصره في ذاتها... ويسوع لم يكن ليُحصَر في أمَّةٍ أو شعبٍ أو إنسانٍ أو مجتمعٍ أو حزبٍ أو رأيٍ أو فكرٍ... وقد كرَّم الإنسان بصورته الإلهيَّة...
ويدعو الناس إلى لقائه: إتبعني! (يوحنا 21، 19) أتركْ كلَّ شيء واتبعني! (متى 19، 21) من أراد أن يتبعني فليحملْ صليبه ويتبعْني...(متى 16، 24) أنا واقف على الباب أقرع! وطوبى لمن يفتح لي! (الرؤيا 3، 20) تعالَيا وانظرا... (يوحنا 1، 39) طوبى لعيونكم لأنَّها تبصر! طوبى لآذانكم لأنَّها تسمع... (متى 13، 16) وهكذا تصبح العيون والآذان وجميعُ حواسِّ الإنسان وأعضائه وسيلةً وآلةً للقاء الله، لقاءِ المسيح!
ويقول لتلاميذه: لستم أنتم اخترتموني! بل أنا اخترتكم وأرسلتكم لتأتوا بثمار وتدوم ثماركم... (يوحنا 15، 16) أتيت لا لأدعو صدِّيقين بل خطأة إلى التوبة... (لوقا 5، 32) ويقول لنا ويحثُّنا قائلاً: أُطلبوا تجدوا! إقرعوا يُفتح لكم! (متى 7، 7) إنَّه يحثُّنا على لقائه ولقاء الناس! إذهبوا إلى العالم أجمع! واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلِّها! إذهبوا إلى القرى...
ويسوع يحبُّ اللقاءات الخاصَّة الفرديَّة، من يحبُّني يحبُّه أبي! وإليه نأتي ونجعل عنده مقامنا! (يوحنا 14، 23) لا أدعكم يتامى! إنّي آتي إليكم!
يسوع يلاقي الجميع! لا بل يهتمُّ بنوع خاصّ بمن لا يَحسُبون حسابَه! إنَّه يترك التسع والتسعين خروفًا ويذهب في طلب الخروف الآخر... الضال! الضائع! الذي بلا رفيق... ويحمله على منكبَيه... ويشمُّ رائحته... ويقبِّله... وهو الآب والأب الذي يَصعد كلَّ يوم على السطح لكي يرى هل شبح ابنه في الأفق! وعندما يراه ينزل بسرعة ويذهب إلى لقائه خارج بيته ويُقبِّله... ولا يتركه يُكمل جملة الاعتذار والتوبة والعودة... (لوقا 15، 11-32)
وهل ننسى أحداث القيامة؟ وكلُّها لقاءاتٌ ومبادراتٌ من قبل المسيح الحنون الذي وعد تلاميذه أنَّه لن يتركهم يتامى! ولا وحدَهم! وقال إنّي آتي إليكم! وها هو يأتي إليهم بعد القيامة: يدخل والأبواب مغلقة! السلام لكم! يدخل ويتوجَّه إلى التلميذ المتشكِّك المرتاب توما! ويرافق التلميذَين لوقا وكلاوبا على طريق عمواص! ويفاجئ الرسل، وقد عادوا إلى مهنة صيد السمك، ويقول لهم بلغته الخاصَّة المتحدِّية: هل عندكم شيء للأكل؟ ويظهر هنا وهناك... كما يصف بولس الرسول والإنجيل المقدَّس وأعمال الرسل... وأخيرًا يظهر لشاول على طريق دمشق، بعيدًا عن أحداث الإنجيل في فلسطين... (أعمال الرسل 9)
وهل ننسى ظهوره ولقاءَه أولاً مع مريم أمّه ومع ومريم المجدلية الخاطئة وحاملات الطيب يوم فجر القيامة؟ (لوقا 24، 1-8)
وهكذا نرى المسيح على دروب الناس كلّ الناس! على دروب فلسطين! على دروب كفرناحوم! على دروب الناس في الناصرة! في السامرة! وعلى دروب القدس ووديانِها وهضابِها... إنَّه الله على الطريق! على دروب الناس!
وقبل أن يذهب إلى السماء يوصي تلاميذه بأن يذهبوا إلى لقاء الناس على كلِّ دروبهم! إذهبوا إلى العالم أجمع! واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلّها! من يسمع، ومن لا يريد أن يسمع. من له أذنان للسماع، ومن ليس له أذنان للسماع... إنَّه علَّم تلاميذه سابقًا كيف يُلاقون الناس. وأرسلهم إثنين إثنين وزوَّدهم بالتوصيات المناسبة وأرسلهم إلى القرى والدساكر (لوقا 10، 1).
الكنيسة مكان اللقاء
لقاء السيِّد المسيح في الهيكل، يعني لقاء المسيح مع الجماعة، لأنَّ الهيكل هو مكان لقاء الجماعة. وفي الهيكل يلتقي بجميع من فيه. لا بل عبارة كنيسة في أصلها اللغوي في اللغات العربيَّة والعبرانيَّة واليونانيَّة وسواها، تعني مكان الاجتماع واللقاء. من هنا عبارات المجمع (لليهود) والجامع (للإسلام) وإكليسيا (Ecclesia) باليونانيَّة واللاتينيَّة (للمسيحيين) ومنها اشتقت عبارة كنيسة في اللغات الأخرى...
ويسوع كان في تردُّدٍ دائم إلى الهيكل والمجمع (باليونانيَّة Synagogueوتعني التواصل والتلاقي معًا). وقُدِّم إلى الهيكل إلى الجماعة وعمره أربعون يومًا. ثمَّ دخلَ إلى المجمع وعمره اثنا عشرة سنة، حسب عادة اليهود، وسُلِّم التوارة... ويروي الإنجيلي لوقا، كيف أضاعت مريم ويوسف الشاب يسوع في الهيكل. وكيف رجعا من سفرهما إلى الناصرة ليفتشا عنه فوجداه في الهيكل! يعلِّم الشيوخ ويشرح لهم التوارة (لوقا 2، 1-20).
وكم نراه يتردَّد إلى الهيكل كما نقرأ في الإنجيل المقدَّس كما يروي الإنجيليون! ويعظ ويجري العجائب ويطرد باعة الحمام والصيارفة (لوقا 21، 12-17)... ويشبِّه الهيكل بجسده. في الهيكل لهُ لقاء شخصي (مع سمعان) ومع الجماعة...
وهكذا فالكنيسة هي مكان التواصل واللقاء والتعليم والحوار... مع الله بالصلاة والابتهال والأناشيد والاحتفال بالليترجيا الإلهيَّة... وهي المكان الذي نعيش فيه الإيمان معًا مع باقي المؤمنين... وهكذا القول عن الجامع (للمسلمين) والمجمع (لليهود)... وهكذا القول عن باقي أماكن العبادة.
وفي الهيكل، في الكنيسة، الله يلاقي الإنسان! الله يسأل عن الإنسان، وعن أحواله ومشاكله! وهكذا يسأل قابين عن أخيه هابيل.. ويسأل آدم في الجنة: أين أنت؟ الله يلاقي الإنسان! الله الخالق يسأل عن خليقته... وهذا ما ندعوه العناية الإلهيَّة... فهو الله الكثير المراحم! المحبّ البشر! المتحنِّن! الرحمن الرحيم! والرحمة تحمل الإنسان إلى لقاء الآخر، لاسيَّما من يحتاج إلى المحبَّة والرحمة والمساعدة!
العين في اللقاء
وفي اللقاء تلعب العين دورًا مهمًّا! الرؤية مهمَّة! العين الساهرة، المحبة، الحنونة، تكتشف ما لا يُرى... وهذا ما يقوله سمعان بعد لقائه مع يسوع: فإنَّ عينيَّ قد أبصرتا خلاصك! نورًا ينجلي للأمم...
وهذا ما قرأتهُ في أماكن مختلفة أثناء زيارتي مؤخرًا إلى تايوان: رأيتُ! شعرتُ! أحببتُ!
وبعد لقائنا يسوع في المناولة المقدَّسة ننشد: "لقد نظرنا النور الحقيقي، وأخذنا الروح السماوي، ووجدنا الإيمان الحق!"
الرؤية مهمَّة جدًا في اللقاء! والعينان تخاطبان كما يخاطب الإنسان باللسان! وهذا ما نجده في الإنجيل! أحداث كثيرة تشير إلى ذلك. بطرس رأى وآمن! وتوما: إن لم أرَ موضع المسامير بيديه. يوحنا المعمدان يرى الروح نازلاً على يسوع! ويسوع يطوِّب العيون: طوبى للعيون التي ترى ما أنتم راؤون! ويقول لنثنائيل: وأنتَ تحت التينة رأيتُكَ... ويوحنا الحبيب يكتب عن خبرته بالرؤية: الذي رأيناه وسمعناه... به نبشركم! (1 يوحنا 1، 1)
مريم سيِّدة اللقاء
الإنجيل بأكمله دعوة إلى اللقاء! مريم في عيد اللقاء تسلِّم المسيح إلى البشريَّة، إلى العالم، من خلال سمعان! إنَّها تعطي المسيح للعالم! حمَلَته في أحشائها! ولدته في مغارة! والآن تسلِّمه إلى سمعان في الهيكل! وهذا يعني أنَّها تسلِّمه للجماعة. وهذا معنى إيقونة العذراء في الطقس الشرقي! إنَّها ليست وحدها، بل هي دائمًا مع يسوع، وتقدِّمه للعالم وتظهره للعالم، وتدعو الناس إلى لقائه! ولهذا ندعو مؤمنينا أن يحافظوا على تقليدهم الشرقي المعبِّر، بأن تكون إيقونات مريم (وحتى التماثيل) في بيوتهم، دائمًا تمثِّل مريم مع طفلها يسوع! وأيضًا عندما يفكِّرون بأن يقيموا في شارعٍ ما صورةً للعذراء مريم أو في بيتهم أو يُهدون هديَّة... أن تكون مريم مع الطفل يسوع! وهكذا مريم تقود المؤمنين إلى يسوع! أو تُظهره لهم كما نقول في ترانيم المدائح: تُظهر المسيح الربَّ المحبَّ البشر ( أُنظر رسالتنا للميلاد لعام 2013 بعنوان "السلام عليكِ يا من أظهَرَتِ الربَّ المحبَّ البشر"). وتسمَّى الإيقونة الدالة إلى الطريق، الهادية: أوذغِيتريا (Othigitria)!
البشريَّة لقاء!
عيد اللقاء هو عيد البشريَّة! فالله خلقنا لكي نؤسِّس معًا أسرة بشريَّة واحدة... ويقول المثل المأثور: جبل على جبل ما بيلتقي! الإنسان يلتقي الإنسان! ونعرف المثل المأثور: الجنة بدون الناس ما بتنداس! وكلُّنا نعرف الآية القرآنية: "يا أيّها الناس إنّا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتَعارفوا" (الحجرات 13) أو بعبارة أخرى لكي تلتقوا... ويسوع يرفض تقدمة القربان من إنسان يعادي أخاه الإنسان ولا يعرف أن يلتقي معه: "إذهب أولاً وصالح أخاك! ثمَّ أئتِ وقدِّم قربانك" (متى 5، 24).
وكما قلنا أعلاه الكنيسة لغويًا وفي كلّ اللغات تعني المكان الذي فيه يلتقي الناس المؤمنون.. وهكذا فالكنيسة حجرًا وبشرًا، هي مكان اللقاء. ودعوتها ورسالتها الأساسيَة ودورها هو مساعدة الناس على اللقاء مع الله، ومع أخيهم الإنسان...
أسرار الكنيسة هي أسرار اللقاء
صرَّحَ المجمع الفاتيكاني الثاني: "إنَّ آلام وآمال أبناء البشر، هي آلام وآمال أبناء الكنيسة!" (الكنيسة في عالم اليوم 1). وكما أنَّ رسالة السيِّد المسيح لقاء الله مع البشر، هكذا رسالة الكنيسة لقاء البشر مع الله! ولقاء البشر فيما بينهم. لا بل أسرار الكنيسة السبعة هي أسرار لقاء الله مع الإنسان ولقاء الإنسان مع أخيه الإنسان. أسرار الكنيسة هي أسرار الجماعة، أسرار لقاء!
هكذا المعموديَّة هي سرّ اللقاء مع المسيح: أنتم الذين بالمسيح اعتمدتم، المسيح قد لبستم. وهي سرّ اللقاء مع الجماعة، لأنَّ المعتمد بالمسيح يصبح عضوًا في الجماعة المؤمنة بالمسيح وتسمَّى الكنيسة. الميرون المقدَّس هو إعطاء الروح للجماعة المؤمنة، لأنَّ الروح هو الذي يحيي الجماعة ويجعلها جماعة! أمَّا الإفخارستيا فهي سرّ اللقاء بأجمل معانيه! وعبارة ليترجيا تعني عمل الشعب، عمل الجماعة. والمناولة تجمع المؤمن من جهة بالمسيح، ومن جهة أخرى بالجماعة. وهذا ما يؤكِّد عليه بولس الرسول في رسالته إلى أهل كورنثوس، حيث يستفيض بشرح علاقة أعضاء الجسد فيما بينها في الجسد الواحد، وعلاقة المؤمنين بالمسيح مع المسيح وفيما بينهم في الكنيسة وبواسطة الكنيسة! (1كورنثوس 12).
سرّ الزواجهو سرّ اللقاء بامتياز: الأب والأم، الزوج والزوجة، والأطفال... الأسرة مكان اللقاء البشري الأساس!
وسرّ الكهنوتهو سرّ التكرّس لخدمة الله والجماعة في الكنيسة.
وسرّ التوبةهو سرّ مسيرة الجماعة الساعية إلى القداسة. والسرّ الذي يُرمِّم علاقاتِ المؤمنين مع الله وفيما بينهم. الخطيئة هي التي تدمِّر العلاقة مع الله ومع البشر! الخطيئة هي نقيضة اللقاء! وهي تُبعد الإنسان عن الله وعن أخيه الإنسان! وسرّ مسحة المرضى هو سرّ شفاء الإنسان ولقاء الإنسان المتألِّم... وهو سرّ إعداد الإنسان للقاء الله في الأبديَّة.
الكنيسة شعب الله: فيها يتلاقى الناس!
أسرار الكنيسة هي حقًّا أسرار لقاء الشعب المسيحي! وهي الأساس للقاء المسيحيين فيما بينهم، وأيضًا أساس لقائهم مع البشر. والأسرار تُكوِّن الكنيسة وتجمع بين جميع أبنائها. فيصبحون شعبًا! لا بل أمّةً! وهذا ما يؤكِّده بطرس الرسول: : "أمّا أنتم فجيل مختار، كهنوت ملوكي، أمّة مقدّسة، وشعب مقتنًى لتشيدوا بحمد الذي دعاكم من الظلمة إلى نوره العجيب" (1 بطرس 2، 9)
إلى هذا أشار قداسة البابا فرنسيس في فرح الإنجيل، عندما يتكلَّم عن الشعب في الإرشاد الرسولي "فرح الإنجيل". وهذه مقاطع مختارة:
"القدّيس بولس يؤكِّد أنَّه في حضن شعب الله، في الكنيسة، "ليس بعد يهودي ولا يونانيٌّ: لأنَّكم جميعًا واحدٌ في المسيح يسوع (غلاطية 3، 28). أودُّ أن أقول للذين يشعرون بأنَّهم بعيدون عن الله والكنيسة، للخائفين واللامبالين: الربُّ يدعوك أنتَ أيضًا لتكون من شعبه، يدعوك بعظيم احترام ومحبَّة!" (فرح الإنجيل رقم 113)
"أن تكون كنيسةً يعني أن تكون شعب الله، بالتوافق مع المشروع العظيم لحبّ الآب. هذا يدعو إلى أن تكون خميرة الله وسط البشريَّة. هذا يعني أن نُعلن ونحمل خلاص الله في عالمنا الذي غالبًا ما يضيع، ويحتاج إلى أجوبة توفّر شجاعةً ورجاءً، وكذلك عزمًا جديدًا في المسيرة. على الكنيسة أن تكون مكانَ الرحمة المجانيَّة، حيث يمكن أن يشعر الجميع بأنَّهم مرحَّبٌ بهم، محبوبون، مسامحون ومشجِّعون على أن يحيوا وفق حياة الإنجيل الطيّبة." (فرح الإنجيل رقم 114)
الكنيسة مكان اللقاء وليس مكان القوقعة والانعزال! إنَّها دعوة دائمة إلى اللقاء! ومن الضروري أن نجمع بين رسالة الكنيسة في الداخل، أن نجمع مثل المسيح، أبناء الله المتفرقين إلى واحد! وإلى الخارج، أن يكون أبناء الكنيسة في المجتمع، في مجتمعهم نورًا وملحًا وخميرة!
وهكذا تُظهر الكنيسةُ معنى وجود الفرد في الجماعة. فقيمته في ذاته، وفي الجماعة. وهذا ما عبَّر عنه بطريقة رائعة البابا القدّيس يوحنا بولس الثاني في رسالته عن السلام لعام 2005 قائلاً: "إنَّ جوهر الإنسان ان يكون مع ولأجل!" أنتَ في الجماعة! ولكنك لأجل الجماعة! وهذا هو معنى كلمة يسوع التي تختصر معنى وغاية وهدف وسرّ الحياة: "أتيتُ لكي تكون للناس الحياة وتكون لهم بوفرة" (يوحنا 10، 10) وقيل عن يسوع: "أتى ليجمع أبناء الله المتفرقين إلى واحد!" (يوحنا 11، 52). وتقول صلواتنا: "أتى ليجمع ما تفرَّق! وينير ما قد أظلم" وصلَّى لأجل وحدة المؤمنين به! لا بل لأجل وحدة البشر وتلاقيهم وتعاونهم وتضامنهم، وذلك في الساعات الأخيرة قبل آلامه: "يا أبتاه أن يكونوا واحدًا! كما نحن واحد" (يوحنا 17، 21). هذه هي الدعوة المسيحيَّة الكبرى! وها هو دور المسيحي عبر الأجيال، شرقًا وغربًا، أن يعمل لأجل التلاقي بين البشر! والتضامن والتواصل والحوار والعيش المشترك والوحدة... لا بل خلاص الفرد من خلاص الجماعة! وخلاص الجماعة من خلال خلاص الفرد!
وكنَّا كطلاب رهبنةٍ وكهنوتٍ نُسأل لماذا دخلتَ الدير؟ وكان الجواب: لكي أخلِّص نفسي ونفس الآخرين. وهذا هو معنى التكريس والكهنوت... وكما قلنا أعلاه سرّ الكهنوت هو سرّ اللقاء!
وهذا ما أكَّد عليه البابا فرنسيس في رسالته فرح الإنجيل: "كلّ كائن بشري هو موضوع حنان الربِّ اللامتناهي، الساكن في حياتهِ. أهرق يسوعُ المسيحُ دمَه الغالي على الصليب لأجل هذا الشخص. إذا وضعنا جانبًا كلَّ مظهر، فكلُّ كائنٍ مقدَّسٌ للغاية ويستحقُّ عطفَنا وتفانَينا.لذلك، إذا نجحتُ في مساعدة شخصٍ واحدٍ كي يحيا أفضل، فهذا يبرِّر عطيَّة حياتي. إنَّه لجميلٌ أن نكون شعب الله الأمين.ونبلغُ الكمال عندما نهدم الحيطان، كي يمتلئ قلبنا وجوهًا وأسماء!" (فرح الإنجيل رقم 274)
لا بل كلّ إنسان رسول لأخيه الإنسان! ومن هنا أهميَّة التربية في البيت والمدرسة، التربية على المسؤوليَّة الفرديَّة نحو الجماعة! أنتَ مسؤول! أنتِ مسؤولة. هذا هو الإنسان الذي يبني المجتمع وليس ذاكَ الذي شعاره: "حيدي عن ظهري بسيطة".
هذا هو الشعار الذي رأيته في مشفى في ألمانيا. حيث هناك ثلاثة أسئلة مع أجوبتها المعبِّرة عن مسؤوليَّة العاملين في المشفى:
من؟ إن لم نكن نحن!
أين؟ إن لم يكن هنا!
ومتى؟ إن لم يكن الآن!
وهذا ما قرأته في مؤتمر في ألمانيا:
أناس كثيرون صغار، في أماكن كثيرة صغيرة، يقومون بخطوات كثيرة صغيرة... يمكنهم أن يغيِّروا وجه العالم!
وأيضًا: إنَّ المعارك الكبرى يربحها الجنود الصغار!
الأسرة مكان اللقاء
اللقاء يتم في إطار الأسرة، وهي مكان اللقاء الطبيعي اليومي، بين أفراد الأسرة. ولذلك نوصي ونحرِّض عائلاتنا بأن يكثِّفوا مجالات وفرص اللقاء العائلي بالصلاة، بالتأمُّل، بقراءة الإنجيل المقدَّس، بالفرح، بالأكل معًا، بالرحلات، بالنزهة معًا، بحضور القدَّاس الإلهي معًا، بالعمل في نشاطات الكنيسة.
القدِّيس يوحنا فم الذهب يتكلَّم عن الأسرة ويشدِّد على الأسرة بأنَّها "الكنيسة البيتيَّة" وكذلك "كنيسة المدينة" أو كنيسة المجتمع. بحيث أنَّ قوَّة الأسرة في داخل الكنيسة والبيت تساعدها على تحقيق رسالتها في المدينة، في المجتمع.
العمل الرعوي لقاء
على الكنيسة أن تنـزل إلى واقع الناس، إلى الشارع، إلى لقاء الناس، كلّ الناس، لأجل التعرُّف على أوضاع مجتمعنا، ولأجل المساعدة في إيجاد وإعطاء الحلول لتساؤلات الناس.
وهذا يقع على عاتق الرعاة بنوع خاص، ولا سيَّما الكهنة، المدعويين إلى لقاء الناس، وإيصال صوت الناس إلى المطارنة والبطاركة، وإلى مجالس الكنيسة. وإلى هذا دعا قداسة البابا فرنسيس في الإرشاد الرسولي فرح الإنجيل. وهذه مقاطع مختارة تشرح أهميَّة اللقاء والتواصل بين الأسرة والرعيَّة وكهنة الرعيَّة.
"كي نكون مبشِّرين بالإنجيل حقيقيّين، من الجدير أيضًا أن ننمِّي المذاق الروحيَّ بأن نكون قرب حياة الناس، حتى نكتشف بأنَّه مصدرُ فرحٍ سامٍ. الرسالةُ هي شغفٌ بيسوع، لكن، في الوقت عينه، شغفٌ بشعبه. يختارنا من وسط الشعب ويرسلنا إلى شعبه، بحيث إنَّ هويَّتنا لا معنى لها بدون هذا الانتماء." (فرح الإنجيل رقم 268)
"وهكذا نريد أن نندمج كلّيًا في المجتمع، ونتقاسم حياة الجميع، ونُصغي إلى مخاوفهم، ونُسهم ماديًا وروحيًا معهم في حاجاتهم، ونفرح مع الفرحين، ونبكي مع الباكين، وننخرط لبناء عالمٍ جديد، جنبًا إلى جنبٍ مع الآخرين. إلاّ أنَّه لا كفرض وثقلٍ يُرهقنا، بل كاختيارٍ شخصيٍّ يملأنا فرحًا ويولينا هويّة." (فرح الإنجيل رقم 269)
"أحيانًا، نحاول أن نكون مسيحيين يقفون على بعدٍ آمنٍ من جراحات الربّ. مع أنَّ يسوع يريدُ أن نلمس الشقاء البشري، وجسم الآخرين المتألّم. ينتظر منا أن نتخلّى عن البحث عن تلك الملاجئ الشخصيَّة أو الجماعيَّة التي تسمح لنا بالبقاء بعيدين عن قلب المآسي البشريَّة. فنقبل حقًّا بالاتصال بوجود الآخرين الحسّي وبالتعرّف على قوة الحنان. إذا فعلنا ذلك، تصبح حياتنا رائعة ونحيا الاختبار العظيم بأنّا شعبٌ، ونحيا اختبار الانتماء إلى شعب." (فرح الإنجيل رقم 270)
"من الواضح أنَّ يسوع المسيح لا يريد أن نكون أمراء يتطلّعون بأزدراءٍ، بل أن نكون رجالاً ونساءً من الشعب. وهكذا نختبر الفرح الإرساليَّ، فرح تقاسم الحياة مع شعب الله الأمين، محاولين إشعال النار في قلب العالم." ( فرح الإنجيل رقم 271)
"الرسالة وسط الشعب ليست جزءًا من حياتي ولا زينةً يمكنني أن أخلعها، ولا زيادةً ولا فترةً من الوجود. إنَّها شيئٌ لا يمكنني اقتلاعه من كياني إذا كنتُ لا أريد أن أدمّر ذاتي. إني رسالةٌ على هذه الأرض، ولهذا وجدتُ في هذا العالم. يجب أن أقرَّ وكأنَّ هذه الرسالة قد وسمتني بالنار كي أُنيرَ وأباركَ وأُنعشَ وأُفرّجَ وأشفيَ وأُحرّر." (فرح الإنجيل رقم 273)
اللقاء في حياتي
اللقاء هو المعنى الحقيقي لعيد دخول السيِّد المسيح إلى الهيكل. واللقاء هو الواقع الأكبر في حياتي. لا بل في حياة كلّ إنسان. اللقاء هو خلاصة التواصل بين الإنسان وأخيه الإنسان، وبين الفرد والجماعة.
لم أجد نفسي سعيدًا إلاّ مع الناس! وعندما أستعرض حياتي بدءًا من مقاعد الدراسة في دير المخلِّص أو لاحقًا في روما، وعندما أستعرض اللقاءات الرائعة في روما، واللقاءات الأولى مع طلاب من الغرب، واللقاءات الأولى مع أصدقائي الألمان، واللقاء التاريخي في الحجّ من مدينة ميتز في فرنسا إلى مدينة تريف في ألمانياحيث يعرض "ثوب المسيح" عام 1959، وحيث مررنا معًا في مناطق تَحاربَ فيها الأخُ مع أخيه والقرى التي تدمَّرت بالحروب، واللقاءات مع العائلات التي كنَّا نبيت عندها كلّ ليلة في مكان آخر... وعندما أستعرض كلّ الصداقات التي سجَّلتُها في حياتي مع آلاف الأشخاص بصداقةٍ شخصيَّة، وجوديَّة، لابل هي صداقاتٌ نسجتْ حياتي ودمغتْ حياتي وصهرتْ مشاعري وشخصيَّتي الكهنوتيَّة والأسقفيَّة في فلسطين الحبيبة والبطريركيَّة... وما أتعس الحياة بدون اللقاء! وما أفقر الحياة بدون لقاء! وما أغناها مع اللقاء ومن خلال اللقاء... والكاهن بنوع مميَّز هو رجل اللقاء!
أجل لعبَ اللقاء دورًا كبيرًا في حياتي. لا بل نسيجها وسداها وعراها هو اللقاء!
تأسيس مجلة الوحدة في الإيمان عام 1961، هو رغبتي أن يلتقي الناس بالوحدة مع المسيح ومن خلال يسوع، ويتعرَّفوا على تراثهم المشرقي ويتلاقَوا من خلال هذا التراث. لا بل الوحدة بين المسيحيين ترتكز على التعارف والتلاقي والتواصل والإغناء المتبادل واكتشاف شخصيَّة الآخر وغنى تراثه وطقسه وتاريخه...
وخدمتي الرعويَّة في قرى الشوف وإقليم الخروب وشرقي صيدا في لبنان أغنت حياتي، وهي من أجمل ذكريات كهنوتي! كانت لقاءات الإيمان مع شعب مؤمن بالمسيح، عاشق للمسيح، فخور بإيمانه، منفتح في تعامله مع جميع المواطنين!
وتأسيس دار العناية عام 1966 في عبرا أولاً، ثمَّ في الصالحيَّة شرقي صيدا (في لبنان)، إنما هو ثمرة آلاف اللقاءات الرائعة مع أصدقائي الألمان، الذين يملأون ذاكرتي حبًّا وصدقًا وإخلاصًا وعطاءً وأمانةً وكرمًا وسخاءً وتضحيةً وضيافةً وإيمانًا وتقوى... أحبُّوني وأحببتهم! وأكرموني وأكرمتهم! وأغنَوني وأغنيتُهم! قدَّموا المال بسخاء لأجل مساعدتي في خدمتي الكهنوتيَّة والرسوليَّة والرهبانيَّة، وفي مشاريعي الكثيرة الكبيرة والصغيرة في لبنان وفلسطين وسورية... في العمل الرعوي، في إدراة المدرسة الكبرى لطلاب الرهبانيَّة المخلصيَّة، في التعليم المسيحي والخدمة الاجتماعيَّة في قرى الشوف والجنوب (لبنان) في مجلَّة الوحدة في الإيمان المذكورة... وبالمقابل أغنيتهم بالاحتفال بالليترجيا الإلهيَّة وبشرحها لهم، وبالمحاضرات حول التراث المشرقي، والأسرار والتقوى المريمية في الشرق، وفي شرح الإنجيل بعيون شرقيَّة وانطلاقًا من عادات الحياة القروية والريفيَّة في سورية وفي بلدة أمي في خبب...
وحقَّقنا معًا لقاءً رائعًا بين الشرق والغرب... فكانت هذه اللقاءات مدرسةَ إيمان وإثراءٍ مشتركٍ متبادل... وهذه هي أسمى معاني اللقاء! اللقاء الذي يتأصَّل بالعطاء المتبادل والصداقة والخدمة المتبادلة والإكرام المتبادل! والتقدير! والمشاعر الصادقة! والهدايا المتبادلة! والأعياد المشتركة! وولائم المحبَّة! هذه كلُّها تجعل من اللقاء بين الناس سبب سعادة حقيقيَّة! حيث لا مكان للأنانيَّة والاستغلال وحبِّ المال والابتزاز. لا مكان لهذه الأمور في اللقاء الصادق بين الناس، وبالحريّ في علاقة الكاهن مع شعبه في الرعيَّة... المجانيَّة في اللقاء هي أساس اللقاء! وكذلك العفوية والبساطة والانفتاح والبسمة... هي كلّها أساس اللقاء! وأساس ثمار اللقاء، وديمومة اللقاء، والصداقات الناتجة عن اللقاء! وهذه كلّه خبرتها في حياتي الرعويَّة! ولم أجد أجمل من الخدمة الرعويَّة! والزيارات الرعويَّة في البيوت... والعمل الرعوي مع الشباب ومع الأخويات... هذه هي اللقاءات التي تساعد الكاهن في عمله الرعوي لأجل الحفاظ على الإيمان المقدَّس في قلوب ونفوس أبناء وبنات رعيَّته!
مشاريع اللقاء
مشاريع حياتي هي ثمرة اللقاء! وتمحورتْ حول اللقاء! وأذكر بنوع خاصّ المشاريع التي حملتْ عنوان اللقاء. ومنها مركز "لقاء" للحوار وللتراث بين المسيحيين والمسلمين في القدس والأرض المقدَّسة. وقد أسَّسناه معًا عام 1982 بالتعاون مع صديقي الدكتور جريس خوري ومجموعة من الأساتذه والجامعيين مسلمين ومسيحيين.
وعام 1982 بدأتُ سلسلة مشاريع اللقاء: مشروع إسكان اللقاء (36 وحدة سكنية للعائلات الشابة)، ورعية اللقاء، وكنيسة اللقاء، وعيادة اللقاء، ومركز اللقاء الرعوي، وقاعة اللقاء الرعويَّة (كلها في القدس).
وانتقلتْ مشاريع اللقاء معي من القدس إلى لبنان وسورية. بعد انتخابي بطريركًا توَّجت العناية الإلهيَّة كل مشاريع اللقاء بالبناء الكبير في الربوة واسمه "لقاء" مركز حوار الحضارات! وهو في الواقع ثمرة مبرَّة ومكرُمة صاحب الجلالة السلطان قابوس، سلطان عُمان، الذي التقيتُ به بحبٍّ وإكرام وتقدير وإيمان مرَّة واحدة. وفتح قلبه لي ولفكرتي أن نؤسِّس معًا مركزًا يحمل اسم لقاء! لقاء الحضارات والأديان! ودشنّاه عام 2011.
حياتي والشكر لله كانت غنيّة لأنَّها كانت غنيّة باللقاء. كنت ولا أزال أتعمَّد اللقاء! ليس اللقاءُ في حياتي ظرفًا فقط. أو فرصةً ملائمة أو صدفةً فقط... كنت أتعمَّد اللقاء! أفتِّش على اللقاء! ولا أستطيع أن أمرَّ بالإنسان إلاّ وأن ألتقي به ببسمة. بإشارة يد، أو غمزة عين، أو بإشارة ما! ولم أمرَّ بإنسان إلاَّ وشعرت أنَّني بعلاقة محبَّة معه! وأنني قريب إليه. ويمكنني أن أروي آلاف القصص حول سحر وأعجوبة وثمار هذه العلاقات. وربما نشرتها في كتاب ذكريات!
لقاء الناس في عطبهم
هكذا على الكنيسة، وبنوع خاص على الكاهن أن يلاقي الناس،ولاسيَّما المنبوذين والفقراء والبسطاء والمهمَّشين والمرضى والمنسيين والمسنِّين... والذين كان ليس لهم قيمة ولا تقدير ولا مكانة في المجتمع... ولا إكرام... ويشعرون أنَّهم خارج الكنيسة، بعيدون عنها... مع هؤلاء يحلو اللقاء! وهم شركاء اللقاء... ودعا البابا الكنيسة بجميع أعضائها "إلى الاهتمام بالأكثر عطبًا على الأرض"وهذه لائحة بهؤلاء الأكثر عطبًا وردت في رسالة قداسة البابا فرنسيس "فرح الإنجيل"، وهذه مقاطع بهذا الشأن:
"لا بدَّ من التنبُّه إلى أشكال الفقر والهشاشة التي من خلالها نحن مدعوون إلى التعرّف على المسيح المتألِّم، حتى إذا في الظاهر لا يعود ذلك علينا بالمنافع الملموسة والفوريَّة: في المتشرِّدين والمدمنين على المخدّرات واللاجئين والشعوب الأصيلة أصحاب الأرض، والمسنّين المرذولين وحدَهم والمهملين إلخ..." (فرح الإنجيل رقم 210)
"لقد أحزنني دائمًا وضع أولئك الذين هم عرضةٌ لأشكال تجارةِ البشر المختلفة. أودُّ أن نسمعَ صوتً الله يسألنا جميعًا: أين أخوك؟ (تك 9:4). أين أخوك العبد؟ أين ذلك الذي تعمل على قتله كلَّ يوم في المصنع الصغير المستتر، في شبكة الدعارة، في الأولاد الذين تستخدمهم للتسوّل، في ذلك الذي يضطرُّ إلى العمل خفية لأنَّه لم ينتظم وضعه؟ لا تتظاهرنَّ بالامبالاة. هناك العديد من التواطؤات. والقضيَّة تعني الجميع! لقد تملّك هذا الجرمُ المافياويُّ الشاذّ على مدننا، وكثيرون يتصبّب الدمُ من أيديهم من جرّاء تواطوءٍ مزفِّهٍ وصامت." (فرح الإنجيل رقم 211)
"مضاعفٌ هو فقر النساء اللواتي يتألَّمن من أوضاع إقصاءٍ وسُوء معاملةٍ وعنف، لأنَّه غالبًا ما يكنَّ في أضعف الإمكانات للدفاع عن حقوقهنَّ. إلاّ أنّا نجد عندهنَّ دائمًا أبدعَ أعمال البطولة اليوميَّة في صيانة هشاشة أسرهنَّ والعناية بها." (فرح الإنجيل رقم 212)
"بين أولئك الضعفاء الذين تريد الكنيسة الاهتمام بهم بمعزَّة خاصَّة، هناك أيضًا الأجنّة الذين هم الأكثرُ حرمانًا من الحماية بين الجميع الأكثر براءةً، ويريدون أن يُنكروا عليهم اليوم الكرامة البشريَّة ليتمكَّنوا من العمل بهم ما يطيب لهم، بحرمانهم الحياة، وبتعزيز سَنِّ شرائعَ لا يستطيع أحد أن يمنعَ سنَّها." (فرح الإنجيل رقم 213)
"نحنُ جميع المسيحيين، الصغار ولكن الأقوياء في حبِّ الله، كالقدّيس فرنسيس الأسيزي، مدعوّون إلى الاعتناء بهشاشة الشعب وبالعالم الذي نعيش فيه." (فرح الإنجيل رقم 216)
لقاء الحضارات والأديان
لقاء وليس صراع! هذا هو التحدي الكبير! إنَّ نظرية هنتغتن هي الصراع! وكتاب هتلر الشهير "صراعي" كان أساس النازية ومن ثمَّ حرب الإبادة الجماعيَّة، أي الحرب العالميَّة الثانية (1941-1945) التي راح ضحيَّتها حوالي 90 مليون إنسان!
وما يسمَّى "الربيع العربي" مؤسَّس على هذه النظريَّة الهدَّامة، نظريَّة الصراع. هو عكس ما أراده الله للبشريَّة من خلال سرّ الميلاد والتجسُّد والفداء، ومن خلال بشرى الإنجيل. أنشودة الملائكة الرائعة، هذا البرنامج الإنساني الرائع: "المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرَّة!" إنَّها الأنشودة اللقاء! إنَّها تُرسي الأسس المتينة الثابتة للقاء بين البشر. إذ إنَّها تصف العلاقة الرائعة بين الله والبشر في هذه الأرض، علاقة مع الله (لقاء مع الله)، ولقاء مع الأرض، ولقاء مع البشر فيما بينهم ومع الله. والثمرة واضحة هي المسرَّة!
اللقاء يعني المشاركة، القبول، قبول الآخر، فكره، حضارته، إيمانه، ثقافته، عقليَّته... إنَّه لقاء بشري كامل، شامل، إنساني! هذا هو لقاء الحضارات والأديان والبشر، كلٌّ على دينه... العالم كلّه لقاء! مع الله! مع الطبيعة!
من الأهميَّة على جانب كبير أن نُتقن فلسفة اللقاءوفنّ اللقاء! وروحانيَّة اللقاء! وتقنيَّة اللقاء! كبشر، كآباء وأُمَّهات!ولاسيَّما الكهنة والمرسلون والراهبات... فالكاهن والراهب والراهبة والمرسل والمرسلة والمكرّس والمكرّسة هم كلّهم وبدرجة ممتازة الذين يجب أن يتميَّزوا بفضيلة اللقاء، وآداب اللقاء، وتقنية اللقاء، وكاريزما اللقاء... فلا يجوز أن نمرَّ بالناس وكأنَّنا لا نراهم...
واللقاء أساس الصداقة! والبشريَّة اليوم بحاجة إلى هذا النَّمط من اللقاء! واللقاء ينبع من ثقة بالناس، من الشعور بكرامة الناس وقيمة الناس، وأنهم حقًا إخوتنا وشركاء حياتنا ومخلوقون على صورة الله ومثاله!
اللقاء أساس الصداقة بين الشعوب! لا بل أساس السلام العالمي المرتكز على الثقة بين الشعوب، كما أشار إلى ذلك المجمع الفاتيكاني الثاني، الحروب مؤسَّسة على عدم الثقة بين الناس، بين الشعوب، بين الدول، بين أتباع الأديان، بين الطوائف... بين الحمائل، بين الحارات في المدينة الواحدة، بين أفراد الأسرة الواحدة...
كم نحتاج اليوم إلى اللقاء الحقيقي المستند إلى الإيمان والمؤسَّس على القيم الإنسانيَّة والإيمانيَّة والدينيَّة للبشر، للإنسان، للفرد... اليوم نحن بحاجة إلى لقاءٍ حقيقيٍّ، ثقافيٍّ، إيماني، حضاريٍّ، بين الشرق والغرب بين الأمم فيما بينها... وما الحروب إلاَّ انعدام الثقة بين الناس والشعوب... وما الحروب إلاَّ ثمرة الأثَرة والمصالح والأنانيَّة والتسلُّط...
مراكز لقاء! مبادرات لقاء!
كم نحنُ اليوم بحاجة إلى تأسيس مراكز لقاء في عالمنا الممزَّق! وإنِّي لسعيد أنَّني كما قلتُ أعلاه أسَّستُ هذه السلسلة من مراكز اللقاء... ولابدَّ اليوم وعلى أثر الحروب والمآسي في مشرقنا العربي، أن نؤسِّس مراكز صغيرة متنوعة، تهدف تنمية اللقاء بين الناس، ولاسيَّما بين أبناء البلد الواحد والمدينة الواحدة والحارة الواحدة والأسرة الواحدة... وهي مراكز تهدف إلى شفاء النفس والمشاعر وإلى إزالة آثار الحرب والعنف والإرهاب ومناظر العنف البربريَّة والبشعة والقذرة واللاإنسانيَّة التي تغزو مجتمعنا وتُبرزها مراكز ووسائل الإعلام... وتجرح لاسيَّما نفوس الأطفال والشباب... وتؤسِّس لجيل من العنف والإرهاب والقتل والكراهية والعداء!
وهذه أمور تعزِّزها الحروب... وخوفنا كبير على مجتمعنا العربي المشرقي أن تغزو عائلاتِنا هذه المشاعر والعواملُ الهدَّامة لقيمنا المجتمعيَّة والإيمانيَّة... وياحبَّذا لو يضع الأساتذة بعلمِ الأسرة وعلمِ النفس، كراريسَ لمختلف المستويات المدرسيَّة، تحتوي دروسًا متدرِّجة لمبادئ اللقاء والحوار والمصالحة والتعاون والتواصل والاحترام المتبادل والثقة والمسامحة والغفران... وتعتمد الدولة هذه الكراريس. وقد أصدرت مؤسَّسة أديان كتابًا مدرسيًا عام 2014 وعنوانه: "دور المسيحية والإسلام في تعزيز المواطنة والعيش معًا".
إنَّنا أمام خطر إديولوجي كبير وهو إزيس أو داعش. وإنَّ ما تبثّه عمدًا هذه الجماعة من مشاهد بشعة بربريَّة لا إنسانيَّة وحشيَّة، إنما هو استراتيجيَّة واضحة تهدف تدمير المجتمع وإفراغَه من القيم والمبادئ والثوابت التي ذكرناه أعلاه. وذلك من خلال بث الرعب والخوف في صفوف المواطنين.
ولذا يجب السعي بكلِّ الوسائل لأجل إرساء وبثِّ ثقافة اللقاء على كلِّ الأصعدة. اللقاء الثقافي والرياضي والمدرسي والجامعي والعمَّالي، وفي الأخويات والجامعات والأندية والمؤسَّسات الخيريَّة والاجتماعيَّة. لأجل إسقاط حائط العداوة بين الناس، كما قال بولس الرسول في رسالته إلى أهل أفسس: "هو سلامنا، هو الذي جعل الشعبين واحدًا، إذ نقض الحائط الحاجز بينهما، أي العداوة وأزال، في جسده، الناموس مع وصاياه وأحكامه، ليكوِّن في نفسه، من الاثنين إنسانًا واحدًا جديدًا، بإحلال السلام [بينهما]، ويصالحهما مع الله، كليهما في جسد واحد، بالصليب الذي به قتل العداوة" (أفسس 2، 14-16).
نداء لأجل لغة اللقاء
من خلال هذه الرسالة نوجِّه نداءً إلى العالم أجمع، إلى الدول العربيَّة والغربيَّة وسواها... ونطلب منها أن تعتمد دومًا أسس العدل والحقّ والمسامحة واللقاء والحوار. وأن تُغلِّبها على لغة الحرب والسلاح والتسلُّح... وهذا النداء نوجِّهه كبطريرك سوري إلى دولتنا العزيزة في سورية، وإلى دول المنطقة، وإلى دول العالم أجمع. إذ لا بدَّ من تغيير النظرة والرؤية وطرق معالجة الخلافات والمصالح... وهذه هي قوة البشريَّة اليوم. وهذه هي قوَّة القيم المسيحيَّة والإنجيليَّة والإيمانيَّة. فالإيمان هو جزء من حلِّ أزمات البلاد في الحرب والمواجهة والصراعات على أنواعها.
ونعود إلى قيمة سرّ التجسُّد الذي نعيِّد له في عيد الميلاد المجيد. إنَّه سرّ اللقاء والتلاقي... وعلى المسيحيين أن يُبرزوا قيمة إيماننا في حلّ مشاكل مجتمعنا السياسي. على العالم أن يجد طريقًا غير طريق الحرب.
لقد قام حائط برلين الشهير وعلى مدى سنوات كثيرة، وأخيرًا سقط قبل 25 عامًا عام 1989. وقد وضع الألمان حوالي 50 ألف جندي لحراسة ولحماية الحائط! وسقط الحائط. ويا للأسف بنى الإسرائيليون حائطًا علوه ثمانية أمتار ويمتدُّ على مسافاتٍ شاسعة في الضِّفة الغربيَّة ويفصل بين الأخ وأخيه. ولكنَّه لم يمنع خطر الحرب بين الإسرائيليين والفلسطينيين. ولم يفهم الإسرائيليون أنَّ أمنهم واستقرارهم لا يتحقَّق بالحرب والقوَّة وآلات الدمار.
إنَّنا كلّنا رعاة من الشرق والغرب مدعوون لبث وإرساء لغة اللقاء والحوار في المجتمع وبين الدول، لكي نساهم مساهمة فعَّالة في تغيير المنطق القائم على الحرب.
وهذا واجب علينا أن نقوم به في مشرقنا العربي مسيحيين ومسلمين. لقاءات قمَّة مسيحيَّة إسلاميَّة ومؤتمرات مسيحيَّة إسلاميَّة يهوديَّة، تُعقد لكي نقوِّي طاقات اللقاء في مجتمعنا، ونتغلَّب على قوى التفرقة والشرذمة والقوقعة والخوف والريبة والعداء والكراهية ونبذ الآخر وقتله والاستقواء عليه وسلب ماله وتدمير أمكنة عبادته وآثار حضارته الروحيَّة والإيمانيَّة والتراثيَّة... ونحنُ نحاول أن نُشاركَ في العديد منها، لكي نُسهمَ في بناءِ حضارة المحبَّة والمصالحة والسلام بين الناس.
الشوق إلى الله عبر الموت
نشيد سمعان الشيخ: "الآن تطلق عبدك"، هو شوق عبَّر عنهُ بولس الرسول عندما قال: "لأَنَّ لِيَ الْحَيَاةَ هِيَ الْمَسِيحُ وَالْمَوْتُ هُوَ رِبْحٌ" (فيلبي 1، 21). وأيضًا قال: "لِيَ اشْتِهَاءٌ أَنْ أَنْطَلِقَ وَأَكُونَ مَعَ الْمَسِيحِ، ذَاكَ أَفْضَلُ جِدًّا" (فيلبي 1، 23). وهذا ما عناه سمعان الشيخ في نشيده. إنَّه نشيد الاستعداد الدائم للموت وللحياة مع المسيح في الحياة هنا، وفي الحياة الأخرى بعد الموت.
وإلى هذا تشير صلواتنا اليوميَّة بطريقة أو أخرى، ولاسيَّما في الطلبتين اللتين نردِّدهما ثلاث مرات يوميًا وهما:
"أن نقضيَ الزمنَ الباقي من حياتنا بسلامٍ وتوبةٍ الربَّ نسأل. وأن تكون أواخر حياتنا مسيحيًّة سلاميًّة بلا وجعٍ ولا خِزيٍ. وأن نؤدِّي جوابًا حسنًا لدى منبر المسيح الرهيب. الرَّب نسأل"
إنَّني أُطبِّق هذا النشيد وهذه الطلبات على حياتي، ولاسيَّما عندما أتطلَّع حواليّ وأرى عددًا كبيرًا من أترابي في أسرتي، وفي رهبانيَّتي، وفي كنيستي وبطريركيَّتي، وبين أصدقائي على اختلاف جنسياتهم ومسؤولياتهم ومناصبهم، وقد سبقوني إلى ملاقاة الربّ في الحياة الأبديَّة. تنطلق هذه الصلاة الآن أيضًا من شفتيَّ ومن قلبي مثل سمعان الشيخ وأكثر من أي وقتٍ مضى، وأردِّد كلَّ يوم بعد ليترجيا القدّاس الإلهي، وبلهفةٍ وتسليمٍ وإرادةٍ وثقةٍ وشوقٍ، أردِّد نشيد سمعان: الآن تُطلق عبدك! ومع القدّيس يوحنا الحبيب أصرخ كما في سفر الرؤية: ماران آتا! هلمَّ أيُّها الربّ يسوع! (رؤيا يوحنا 22، 20).
إنَّ هذا النشيد يختصر روحانيَّة الوقت والزمان والانتظار واستعداد العذارى لاستقبال السيِّد العروس الآتي في نصف الليل. إنَّها روحانيَّةٌ في صلب صلواتنا الطقسيَّة على مدار السنة في السواعية، في صلاة نصف الليل التي ما عدنا نصلّيها حتى في أديارنا، وفي كتاب المعزِّي، وفي كتاب المشاهرة. إنَّها روحانيَّةٌ تقوِّي عزيمتَنا أمام الشدائد على الأرض، ومن جهةٍ أخرى تجعلنا في تأهّبٍ دائم لاستقبال الختن، كما نرنِّم في الاسبوع العظيم المقدَّس: "هوذا العروس يأتي في نصف الليل. فطوبى للعبد الذي يجده ساهرًا"
لا بل هذا هو أحد معاني شعاري البطريركي في شقِّه الأول: إسهروا! والسهر هو برنامج حياتي هنا. وبرنامج استعدادي لهناك. وما أجمل صلوات الثلاثاء من الأسبوع العظيم المقدَّس، التي هي استعداد روحيّ للقاء الربّ يسوع، كما نرى في هذه الأناشيد المختارة:
"لِنُحِبَّ العروسَ يَا إِخوَة. وَلْنُهيِّئْ مصابيحَنا. لامعينَ بالفضائلِ والإيمانِ القويم. لِنَدخُلَ معَهُ إلى العُرْسِ مستَعِدِّين. مثلَ عَذارى الربِّ الحَكيمات. لأَن العروسَ. بما أنه إِلَهٌ. يَهبُ للجميعِ الإكليلَ الذي لا يَذْوي."
"أَيَّتُها النَّفسُ الشَّقيَّة. لِمَ تَتَكاسَلينَ مُتَثاقِلة؟ لِمَ تَلْتَهينَ في غيرِ الأوانِ بهمومٍ غيرِ نافعة؟ لِمَ تَميلينَ إِلى الأشياءِ الزَّائلة؟ ها قد دَنتِ الساعةُ الأخيرة. وقد أوْشَكْنا أَن نَنفَصلَ عمَّا هنا. فاسهَري ما دامَ لكِ الوقت. صارخة:خطئتُ إليكَ أَيها المسيحُ مخلِّصي. فلا تَقْطَعْني كالتِّينةِ الخاليةِ من الثَّمر.بل بما أنكَ متحنِّن.إِرأَفْ بي أَنا المبتهلةَ إليكَ بخوف:لا نَلْبَثَنَّ خارجَ خِدْرِ المسيح."
"إِنَّني أُشاهِدُ خِدرَكَ مزيَّنًا يا مخلِّصي. وليسَ لي ثوبٌ للدخولِ إليهِ. فأَبهِجْ حُلَّةَ نفسي. يا مانحَ النورِ وخلِّصْني."
"أَيُّها المسيحُ العروس.ليسَ عندي مِصباحٌ متّقِدٌ بالفضائل. أَنا النَّاعسَ لِتَهاوُنِ نفسي. وقد ماثلتُ العذارى الجاهلات.بتوانيَّ في أَوانِ العمل.فلا تُغلِقْ دوني جَوانحَ رأفتِكَ أَيها السيِّد. بل أَزِلْ عنِّي النَّومَ القَاتِم. وأَنهِضْني. وأَدْخِلْني مع العذارى الحكيماتِ إِلى خِدْرِكَ. حيثُ صفاءُ ترنيمِ المعيِّدينَ والهاتفينَ بلاانقطاع: يا ربُّ المجدُ لك."
"هلمُّوا أَيها المؤمنُونَ نَعْمَلْ للسيِّدِ بنشاط.فإِنَّهُ يُوَزِّعُ الثَّروةَ على عبيدِهِ. ولْيُضاعِفْ كلٌّ منَّا وزنةَ النِّعمةِ بحسبِ طاقتِهِ.فعلى الواحدِأن يُزيِّنَ حكمتَهُ بالأعمالِ الصالحة. وعلى الآخَرِأَنيُضْفيَ على خدمتِهِ مِسحةً من البهاء. على المؤمنِ أن يُشْرِكَ الجاهلَ في الكلمة. وعلى الآخَرِأَن يُوَزِّعَ ثـَروتَهُ على البائسين. فهَكذا نُضاعِفُ القَرضَ.ونُؤَهَّلُ للفرَحِ السيِّدي. كَوُكلاءَ أُمناءَ للنِّعمة. فأَهِّلْنا لهُ أَيها المسيحُ الإلَه. بما أَنكَ محبٌّ للبشر."
"أَيُّها العروسُ الأَبهى جَمالاً من جميعِ البشر.الذي دعانا إِلى وليمةِ خِدْرِهِ الروحيَّة. إِنزعْ عنِّي صورةَ زلاَّتي الشَّنيعة. بمشارَكةِ آلامِكَ. وزيِّنِّي بحُلَّةِ مجدِ بَهائِكَ. وأَشْرِكْني في أَفراحِ ملكوتِكَ. بما أنكَ متحنِّن."
"يا نفسي. ها قد ائتمنَكِ السيِّدُ على الوزنة. فاقبَلي النعمةَ بخوف. وأَقْرِضي المعطي.بإحسانِكِ إِلى الفقراء. واتَّخذي الربَّ صَديقًا.لِتَقِفي عن يمينهِ متى جاءَ في مجدِهِ. وتَسمَعي صوتَهُ المغبوط: أُدخلْ أَيها العبدُ إِلى فرَحِ ربِّكَ. فيا مخلِّصي أَهِّلْني لهُ أَنا الضَّالّ.بعظيمِ رحمتِكَ."
أماني العيد: أماني اللقاء
لكم أيُّها الأحبَّاء جميعًا أطيبَ الأماني في عيد التجسُّد الألهي في عيد الميلاد المجيد، في عيد اللقاء والتحاب والتعارف والتلاقي والتواصل والإغناء المشترك والإكرام المتبادل والتعاطف والتقدير والتراحم والرحمة والمحبَّة.
إذا كان تجسُّد السيِّد المسيح جوهره وغايته وهدفه اللقاء! وإذا كان الإيمان لقاء، والرجاء لقاء، والمحبَّة لقاء، فإنَّ مستقبل البشريَّة لقاء!
ندعو الجميع في هذا العيد أن يقوموا بكلِّ انواع اللقاء في مجتمعهم. ندعو العائلات إلى اللقاء اليومي في الأسرة، بالمائدة المشتركة، بالصلاة، بجلسة المحبَّة والتسامر والحبّ والفرح والمرح... فلا تصبح أُسرنا جزرًا، كلُّ يعيش مع حاسوبه الخاصّ، مع الفيس بوك، ومع التويتر... فيتواصل مع البعيد البعيد، ويهمل اللقاء مع القريب القريب... إنَّ أُسرنا بحاجة إلى لقاء مستمر... أولادنا بحاجة إلى محبَّة الأهل واللقاء بهم... والأهل يحتاجون إلى محبَّة أولادهم وعطفهم وحضورهم...
الآن تطلق عبدك! هذا الشوق إلى الله، تحوَّل إلى لقاء مع الله! سمعان الشيخ يدعونا إلى لقاء الرب! إنَّه صبرَ طويلاً وانتظر طويلاً لكي تنظر عيناه خلاص الربّ!
القدّيس بولس يتكلَّم عن هذا الانتظار الطويل المؤلم عندما يقول: "إنَّ الخليقة تنتظر بفارغ الصبر تجلِّي أبناء الله" (روما 8، 19).
وعالمنا في انتظار وترقُّب... بلداننا العربيَّة في هذا الانتظار والمخاض والألم... ولاسيَّما سورية ولبنان والعراق وفلسطين... إنتظار إنهاء أعوام من الحرب والألم والمعاناة والقتل والموت والدمار...
درب الصليب والصلاة
إنَّنا نلتجئ إلى الله بالصلاة لكي يتحقَّق هذا الخلاص وينتهي درب صليب معاناتنا. وقد قمنا في دمشق بمبادرتين: الأولى إقامة الصلوات يوميًا، وكلّ يوم في كنيسة من كنائس دمشق في جميع الطوائف المسيحيَّة على مدى ثلاثين يومًا (22 أيلول وحتى 22 تشرين الأول 2014). وعلى الأثر في أواخر تشرين الأول دعونا إلى مبادرة بعنوان "شمعة لأجل سورية". مستلهمين دعوة قداسة البابا فرنسيس الذي يصلِّي يوميًا لأجل سورية وأمن وسلام المنطقة، عندما قال: "لا تتركوا شعلة الأمل تنطفئ في قلوبكم". وعلى هذا دعونا رعايانا والآن ندعو الجميع من خلال هذه الرسالة إلى أن يشعلوا شمعة أو قنديلاً كلّ يوم مساءً في بيوتهم، ويختلوا للصلاة وقراءَة روحيَّة من الإنجيل المقدَّس، طالبين السلام لهذه البلاد المتألِّمة والرازحة تحت ثقل صليب الحرب وأنواع المآسي...
رسالتنا لقاء يبقى!
أملنا أن نلتقي من خلال هذه الرسالة مع إخوتنا الأساقفة الأحبَّاء أعضاء مجمعنا المقدَّس الموقَّرين، ومع إخوتنا وأبنائنا الكهنة الأحبَّاء، ومع أخواتنا وبناتنا الراهبات والشمامسة، ومع جميع أبناء وبنات رعايانا وأبرشيَّاتنا الأحبَّاء المباركين في أبرشيَّاتنا في الرقعة البطريركيَّة في البلاد العربيَّة، في كلّ من سورية ولبنان والأردن وفلسطين (ولا سيَّما بيت لحم وبيت ساحور) والعراق ومصر والسودان والكويت وباقي البلاد العربيَّة، حيث أولادنا يعملون ويطوِّرون مجتمعاتنا العربيَّة بمهاراتهم المميَّزة وبشهاداتهم وحضورهم ودورهم.
ونلتقي من خلال هذه الرسالة مع رعايانا في بلاد الانتشار والاغتراب في كندا والولايات المتَّحدة الأميركيَّة والبرازيل وفنزويلا والأرجنتين والمكسيك وأوستراليا ونيوزيلندا. وكذلك في شتات بلدان أميركا اللاتينيَّة، حيث ليس لنا وجود كنسي منظَّم، ولكن لنا أبناء كثيرون لم نتمكَّن أن نؤسِّس لهم كنائس كما نرغب...
ونلتقي من خلال هذه الرسالة برعايانا في أوروبا، لاسيَّما حيث لنا رعايا منظَّمة في روما وباريس ومرسيليا وبروكسل ولندن وستوكهولم وفي شتات سويسرا والنمسا وألمانيا وهولندا وإسبانيا...
لقد تمكَّنتُ من زيارة رعايانا القريبة والبعيدة. ونتمنَّى لهم جميعًا فيض نعم المخلِّص عليهم جميعًا، لكي يبقوا أقوياء في الإيمان. ومثل سمعان نتمنَّى لهم أن يلاقوا الربّ في حياتهم بشوق مثل شوق سمعان، وأملٍ ورجاءٍ ومحبَّةٍ وثقة.
ونتمنَّى لجميع أصدقائنا أن يُنمُّوا في حياتهم طاقات اللقاء والتلاقي، لكي يوصِلوا إلى كلِّ إنسان فرح الإنجيل! ويساعدوا كلَّ إنسانٍ يلتقون به إلى أن يلتقي هو أيضًا بيسوع فيكون يسوع المولود الجديد والإله الذي قبل الدهور، لكلِّ إنسان نورًا ينجلي في قلبه، كما يتمنى لنا بطرس الرسول في رسالته الثانية "أن ينبلج كوكب الصبح في قلوبكم" (2 بطرس 1، 19).
الآن تطلق عبدك! إنَّها شعلة الأمل والحبّ والعشق والشوق والسعادة والفرح... نصلِّي لأجل الجميع لكي يلاقوا الربَّ المخلِّص في حياتهم، ونصلِّي لأجلهم داعين إياهم كما في صلواتنا المليئة بالأمل والثقة والرجاء: لنذكر سيدتنا مريم التي قدَّمت يسوع طفلها الإلهي إلى الهيكل وجميع القدّيسين. ولنودع المسيح الإله ذواتنا وبعضنا بعضًا وحياتنا كلّها.
الآن تطلق عبدك!نصلّيها في آخر القدّاس وفي آخر صلاة الغروب، لا بل نُصلِّيها كلَّ يوم منتظرين مجيء الربّ في حياتنا ليبقى معنا ويقودنا إلى الحياة الأبديَّة لنلاقي الربّ ونكون معه دائمًا!
ميلاد مجيد! وعام جديد مبارك!
مع محبَّتي وبَرَكَتي ودعائي
+غريغوريوس الثَّالث
بطريرك أنطاكية وسائر المشرق والإسكندريَّة وأورشليم
للرُّوم الملكيّين الكاثوليك
Le Vatican a publié mardi 23 décembre une lettre du pape François aux chrétiens du Moyen-Orient.
À l'approche de Noël, il souhaite manifester son soutien à l'égard de communautés très éprouvées, en particulier par les exactions de l'organisation État islamique.
Il y livre un vibrant plaidoyer pour le dialogue interreligieux.
« Vous avez une grande responsabilité et vous n'êtes pas seuls à l'affronter. C'est pourquoi j'ai voulu vous écrire pour vous encourager pour vous dire combien votre présence et votre mission sont précieuses en cette terre bénie par le Seigneur. »
C'est une lettre du pape François empreinte d'une particulière gravité que le Vatican a rendu publique mardi 23 décembre. Dans ce message aux « chrétiens du Moyen-Orient », traduit en huit langues, dont l'arabe, et envoyé à quelques jours de Noël, le pape entend surtout marquer ses encouragements à l'égard de communautés très éprouvées.
Il y manifeste son soutien en plusieurs temps. Après avoir invité les chrétiens de la région à rester attachés au Christ, souhaitant que « l'épreuve » fortifie leur foi et leur fidélité, il les exhorte longuement à « collaborer avec des personnes d'autres religions ».
L'antidote du dialogue
Dans ce vibrant appel au dialogue, il martèle : « Le dialogue interreligieux est d'autant plus nécessaire que la situation est plus difficile. Il n'y a pas d'autre voie. » Le dialogue, poursuit-il, est « le meilleur antidote à la tentation du fondamentalisme religieux ».
Le pape s'adresse en particulier aux chrétiens vivant « dans un milieu à majorité musulmane » : « Vous pouvez aider vos concitoyens musulmans à présenter avec discernement une image plus authentique de l'islam ».
Il prodigue également ses encouragements, tout particulièrement aux jeunes (« N'ayez pas peur ni honte d'être chrétiens »), aux personnes âgées (« vous êtes la mémoire de vos peuples ») et aux religieux présents sur place. Enfin, le pape soutient ceux qui œuvrent dans les domaines de la charité et de l'éducation. « Vous contribuez aussi à la paix dont la région a faim comme de pain », leur écrit-il.
Présence précieuse
Il insiste, enfin, sur l'importance des chrétiens au Moyen-Orient, alors que nombre d'entre eux souhaitent fuir leur pays : « Votre présence même est précieuse pour le Moyen-Orient. Vous êtes un petit troupeau, mais avec une grande responsabilité en cette terre, où est né et où s'est répandu le christianisme. »
Ce message rappelle celui adressé le 8 décembre aux chrétiens d'Irak, à l'occasion de la « fête des Lumières » organisée par le cardinal Philippe Barbarin, archevêque de Lyon, à Erbil, la capitale du Kurdistan. « Les chrétiens sont en train d'être chassés du Moyen-Orient, dans la souffrance », avait déploré le pape, en leur assurant prier pour eux.
« Vous êtes, en ce moment même, ce roseau, avait-il affirmé dans un message vidéo. Vous pliez avec douleur, mais vous avez cette force qui vous fait tenir bon dans votre foi, et c'est pour nous un témoignage. Aujourd'hui, vous êtes les roseaux de Dieu ! »
Abus indignes de l'homme
Des encouragements rendus nécessaires, selon le pape, par l'aggravation de la situation dans la région, en particulier en raison de l'organisation État islamique.
Sans jamais la citer, il fustige dans sa lettre une « organisation terroriste », qui « commet toutes sortes d'abus et de pratiques indignes de l'homme, en frappant de manière particulière certains d'entre vous qui ont été chassés de façon brutale en de leurs propres terres, où les chrétiens sont présents depuis les temps apostoliques ». À nouveau, il exhorte les responsables musulmans à une condamnation « unanime » et « sans aucune ambiguïté » de ces « crimes ».
Celui qui a invité, en juin, les présidents israélien et palestinien à une prière pour la paix dans les jardins du Vatican, avait aussi marqué les esprits, un mois auparavant, lors de son voyage en Terre sainte, en priant au pied du mur de séparation, à Bethléem, et près du mur occidental de Jérusalem.
Pour le pape, cette lettre est aussi un message de plus adressé à la communauté internationale, et une occasion d'insister sur la nécessité de poursuivre le « travail diplomatique », et sur sa condamnation du « trafic d'armes ».
Mgr Sako : le pape peut venir en Irak
« J'espère beaucoup avoir la grâce de venir personnellement vous visiter et vous réconforter », conclut François. Une volonté qui fait écho à celle exprimée par Mgr Louis Raphaël Sako, patriarche de Babylone des Chaldéens, d'accueillir le pape dans son pays.
« Sa sécurité en Irak peut être garantie, assurait-il dans un récent entretien à l'Aide à l'Église en détresse. Sa visite serait bien plus qu'une visite. Elle aurait une énorme valeur pastorale et spirituelle ».
Mgr Sako suggère que l'évêque de Rome, « sur une seule journée », puisse rencontrer les membres du gouvernement irakien, puis célébrer une messe à Erbil. La possibilité de faire escale dans cette ville du nord de l'Irak, un temps envisagée à l'occasion du voyage du pape en Turquie, avait été abandonnée par le Saint-Siège pour des questions de sécurité.