تعود غالبية الطائفة المارونية اليوم الى سوريا، للبحث عن جذورها الدينية والسياسية. هي رحلة حج ديني تشبه الى حد ما تلك الرحلة التي قام بها قادة الجبهة اللبنانية الى دمشق في أعقاب اندلاع الحرب الأهلية في العام 1975 طالبين نصرتها على مواطنيهم المسلمين الذين حملوا السلاح في وجه الصيغة والميثاق، وطالبوا بالإصلاح والتغيير، تحت شعار حماية المقاومة الفلسطينية وحقها في الكفاح المسلح من لبنان.
قد لا يكون الحجاج الموارنة الموجودون في بلدة براد السورية اليوم يمثلون أكثر من الغالبية البسيطة داخل الطائفة التي تمر اليوم في واحدة من أدق مراحل تاريخها الحديث، وتشعر بالفعل أن نظام الحكم في سوريا هو ملاذها الأخير وحصنها الوحيد في مواجهة أحد أسوأ مظاهر التطرف الديني التي انحدر إليها المسلمون اللبنانيون، سنة وشيعة، في العقدين الماضيين، والتي تضع البلد على حافة الفتنة والحرب الأهلية التي يمكن أن تشتعل في أيام، لا في أسابيع أو أشهر على ما قال الرئيس السوري بشار الأسد نفسه لمجلة نيويوركر الأميركية. المفارقة الغريبة في هذا الحج الديني الافتراضي الى سوريا أنه يتم بقيادة أبرز علمانيي الموارنة أو على الاقل أشدهم افتراقا عن الكنيسة المارونية، التي تقف بمنأى عن هؤلاء المؤمنين الجدد الذين اكتشفوا حديثا، من دون الحصول على بركة بكركي وبطريركها الحالي، قديسهم الأول مار مارون، وشفيعهم الثاني بشار الأسد، وقرروا الذهاب حتى النهاية في معركتهم لوراثة الطائفة ومؤسساتها الدينية والسياسية، بعدما سدت في وجههم أبواب الفاتيكان الذي رفض ولا يزال يرفض ذلك التمرد الشديد على البطريرك نصر الله صفير، وذلك التوجه المتسرع خارج حدود الوطن وطوائفه «وأمجاده» التي تستدعي المزيد من الانفتاح والتصالح الماروني. طقوس الاحتفال بالذكرى المئوية السادسة عشرة لمار مارون، هي بهذا المعنى أشبه بإعلان اليأس من الشريك المسلم السني والشيعي والدرزي ايضا، والجهر بالخوف التاريخي المتجدد من أن يكون مصير موارنة لبنان مثل مصير مسيحيي العراق وفلسطين ومصر وبقية أنحاء المشرق العربي. ولا جدال بأن سوريا بوضعها الحالي تقدم مثالا فريدا، وجذابا يغري بعض السائرين على رأس مسيرة الحج الماروني الى براد اليوم بالادعاء أنهم باتوا بالفعل زعماء مسيحيي الشرق الذين لم يبق منهم إلا القليل القليل. لكنه حج متأخر بعض الشيء، لن يشهد سوى على هذا الشرخ العميق داخل الطائفة المارونية، ولن يقود الى عودة الحجاج من براد لقيادة رعية ضائعة بين كنيستها المترددة وأحزابها المتقلبة. ومهما يكن من مبرر ديني مفترض لهذه الرحلة، فإن المسلمين على اختلافهم لن يجدوا فيها سوى تكرار لتجربة السبعينيات، التي كانت عابرة في تاريخ العلاقات السورية المارونية، ولم تكن مجدية أبدا للجانبين ولا للبلدين، وما زالت ذكراها محفورة في أذهان الجميع، ولن يبددها الاكتشاف الطارئ لقبر مار مارون وذكراه. لكن الحج الماروني الى سوريا يمكن أن يكون مبروراً فقط، اذا استكمل بالسعي الدؤوب للعودة الى الوطن الذي أعطي للموارنة، وأضاعوه أكثر من مرة.. واذا استبعد الحجاج التهديد بالهوية المستعادة لقديس الطائفة وشفيعها. |
As-Safir Newspaper - ساطع نور الدين : الهوية المارونية المستعا