مداخلة البروفسور سليم دكاش :
"ما جاء في الإرشاد الرسوليّ لم يكن سوى تأكيد لما قاله قداسته في السابق وقبل أيّام من زيارته إلى لبنان "إنّ الأصوليّة هي دومًا تزيّيفٌ وتحريف للدين"، معتبرًا أنّ الأصوليّة هي خطر يداهم الكنيسة وجميع الأديان داعيًا الجميع إلى نوع من "التطهّر الذانيّ" وإلى إنارة الضمائر وتربيتها للوصول إلى الحوار فالمعالجة والسلام".
تابع"موضوع الأصوليّة في الإرشاد الرسوليّ توقف على نقاط ثلاث:
في المجال الأول "الدوافع التي دَعت قداسته إلى الحديث عن الأصوليّة في الإرشاد، الإشارة إلى المأساة والاضطرابات التي تعيشها تلك "الأرض المباركة والشعوب التي تسكنها (...) وإلى جانب الواقع المأزوم، وبالرغم من انعدام الاستقرار، الحوار بين الأديان بين اليهوديّة والمسيحيّة وبين الإسلام والمسيحيّة هو واقع حيويّ حدّده وبوضوح دستور الكنيسة العقائديّ نور الأمم والإعلان بشأن علاقات الكنيسة مع الديانات غير المسيحيّة، هذا الحوار يرمي إلى أن يكتشف المؤمنون في إطار الديانات الثلاث التوحيديّة الشهادة الجميلة للصفاء والمودّة بين أبناء إبراهيم".
تابع:"والأرشاد واقعي في نظرته إلى العلاقات بين المسلمين والمسيحيّين، فمن ناحية هناك تقليد من العلاقات اليوميّة الجيّدة حيث تفاعل ويتفاعل المسيحيّون مع المسلمين إلاّ أنّ الاختلافات العقائديّة شكّلت "للأسف ذريعة لدى هذا الطرف أو ذاك ليبرّر باسم الدين ممارسات التعصُّب والتميّيز والتهميش وحتّى الاضطهاد. وهكذا فإنّ العلاقات بين المسلمين والمسيحيّين واليهود هي سريعة العطب وإنّ الأصوليّة العنيفة تهدّد هذه العلاقات في الصميم وفي ظلّ تناميّ العنف ونبذ الآخر".
أضاف: "ومن الأسباب التي دَعت الإرشاد إلى نقض الأصوليّة العنيفة، هي تلك النزعة الموجودة عبر التاريخ أن يعامل المسيحيّون كمواطنين أو كمؤمنين من درجة ثانية، فننسى أنّ المسيحيّين هم من أهل البيت وأنّهم كانوا من روّاد النهضة العربيّة الذين حافظوا على التراث العربيّ والإسلاميّ. كما "أنّ المسيحيّين لديهم إحساس خاصّ وعميق لكرامة الشخص البشريّ والحريّة الدينيّة الناجمة عنها وباقي الحقوق الأساسيّة أيضًا. وهذه الحقوق ليست حقوقًا مسيحيّة للإنسان بل إنّها حقوق جميع الناس من دون تفريق".
تابع: "ويعلن الإرشاد أنّ الحريّة الدينيّة هي تاج كلّ الحريّات وهي حقّ مقدّس وغير كامل للتفاوض أكانت حريّة الممارسة أم حريّة الضمير في اختيارالإنسان العاقل لدينه، وذلك من دون أنّ يعرّض حياته وحريّته الشخصيّة للخطر ومن دون إكراه في الدين وهو يتّخذ أشكالاً متعدّدة وخطيرة على الأصعدة الشخصيّة والاجتماعيّة والثقافيّة والإداريّة والسياسيّة، وهذه الحريّة هي أبعد من التسامح المحدود في التطبيق".
أضاف: "يختم الإرشاد سلسلة الأسباب التي تدعو إلى ترك الأصوليّات العنيفة، حيث إنّ منطقة الشرق الأوسط بمسلميها ومسيحيّيها واليهود فيها عليها أنّ تظهر للعالم بأن العيش معًا ليس أمرًا مثاليًّا وإنّ انعدام الثقة والأحكام المسبقة ليست أمرًا حتميًّا (28). والحوار الإسلاميّ المسيحيّ في غناه وحدوده هو أداةٌ من شأنه تعزيز ثقافة العيش المشترك وخدمة الخير العامّ والمساهمة في بناء كلّ شخص وفي بناء المجتمع". و"يشجّع الإرشاد مجهود أهل الحوار على مواصلة عمل السلام هذا مدركين ضرورة دعم كلّ ما من شأنه التعزيز للجهد وتنمية المعرفة. ولا شكّ أنّ الأصوليّين بوجه عامّ يرفضون فكرة الحوار وممارسته وبالتالي يهدّدونه ويهدّدون المشاركين فيه".
وفي المجال الثاني الإرشاد يدين العلمانيّة بوجهها المتطرّف في إلحادها ولا أخلاقيّاتها وهذا النوع من العلمانيّة يدفع إلى تعزيز الأصوليّة الدينيّة العنيفة، والأصوليّة الدينيّة المدانة هي تلك العنيفة التي تستخدم مختلف الأدوات لإيذاء الآخر في جسده وفكره وروحه والتي تدّعي قيامها على أصول دينيّة فتستخدم الدين لمآربها في الوصول إلى السلطة والتمكّن فيها عبر التسلّط على الآخر وتصويره كأنّه مصدر شرّ ومهدّد الآخر".
تابع: "الأصوليّة تستغلّ الظروف الاقتصاديّة والساسيّة الصعبة، وهي تستفيد من الاستبداد السياسيّ للأنظمة لكيّ تنمو عبر خطاب يدعو إلى إحلال حكم إلهيّ فكان الحكم المدنيّ السياسيّ". وهي "تحيا في إطار اجتماعيّ يقوم البعض فيه بشرح الدين شرحًا ناقصًا يشدّد على التديّن لا على الإيمان والروحانيّة وتقدير خَلق اللـه أجمعين في كرامتهم وأرزاقهم وأرواحهم".
ورأى أن "التطرّف في نظر الإرشاد يصيب كلّ الجماعات الدينيّة ويرفض التعايش المدنيّ معًا. وهذا التطرّف الأصوليّ يقوم بالتسلّط على ضمير الآخر وعلى الدين بشكلّ إجماليّ، فيتحوّل الدين من عقيدة تساعد الإنسان على النموّ روحيًّا وعلى اكتساب القيم الأساسيّة التي الإنسان بحاجة إليها وهي قيم الثقة بالذات وبالآخر وبالحريّة والمحبّة، كما هو بحاجة إلى الماء والخبز ليبقى على قيد الحياة".
في المجال الثالث عن الخطوات المساعدة لتجاوز الأصوليّة؟ يوجّه الإرشاد نداء ملحًّا لجميع المسؤولين الدينيّين أوّلاً في الإسلام والمسيحيّة واليهوديّة في منطقة الشرق الأوسط إلى أن يعتمدوا مواقف إنسانيّة واجتماعيّة وروحيّة هي نقيض التطرّف الدينيّ العنيف والمحقّر الذات والآخر. إنّها التربية بالمثل وبالمثال أوّلاً ثمّ بالتعليم ثانية القائم على ما تقوله الأديان عن ضرورة نبذ التطرّف وآثاره، خصوصًا وإنّ هذا التطرّف يرتدّ اليوم على صاحبه وعلى دينه إذ يراه الآخر وخصوصًا المراقبون في الإعلام والمجتمع دينًا متطرّفًا لا يستطيع قبول الآخر والعيش معه".
ورأى أن "الإرشاد لا يترّدد في استخدام كلمة جريمة في نعت الأصوليّة العنيفة لأنّها تقوم على استخدام الوحيّ والكتابات المقدّسة أو اسم اللـه لتبرير مصالحها أو سياساتها أو لتبرير العنف. إنّ التطرّف الدينيّ هو اليوم الخطر الأوّل على بقاء الناس في أوطانهم أو الأداة الفاعلة في تهجير الناس من ديارهم".
وختم دكاش "الأصوليّة العنيفة هي ابتعاد عن أصول الدين وأصول الدين هي الرحمة والمحبّة والعدل وقبول التعدّديّة والحريّة وكرامة الشخص البشريّ وتضامن الجماعة. فلنعمل من أجل رفع قيمة الأصول الإيمانيّة والروحانيّة الصحيحةومرتبتها وتحويلها إلى واقع معيوش، لعلَّ في ذلك أيضًا درءٌ لخطر الأصوليّة العنيفة وتخفيفًا من حدّتها وقوّتها".
واختتمت الندوة بمداخلة الأب الدكتور جورج مسّوح جاء فيها :
"لا يقرّ الفقه الإسلاميّ، قديمًا وراهنًا، بالمساواة في الحقوق والواجبات ما بين مواطني الدولة القائمة على الشريعة الإسلاميّة. وهذا الفقه، وإن زعم تبنّيه المواطنة أساسًا للحكم، ما زال يميّز بين المواطنين على أساس دينيّ ومذهبيّ. أمّا حين يتحدّث بعض الفقهاء والمفكرّين الإسلاميّين عن المواطنة، فتراهم يضعون استثناءات أو تحفّظات تشريعيّة على مشاركة غير المسلمين في الدولة الإسلاميّة".
أضاف: "أمّا في ما يتعلّق بوظائف الدولة التي يمكن "أهل الذمّة" أن يشغلوها، فقد ميّز الفقهاء في هذا الشأن بين الوظائف التي يمكن غير المسلمين أن يتولّوها وبين الوظائف التي لا يمكن إلاّ المسلمين أن يتولّوها. يقول القرضاوي في هذا الصدد: "ولأهل الذمّة الحقّ في تولّي وظائف الدولة كالمسلمين. إلاّ ما غلب عليه الصبغة الدينيّة كالإمامة ورئاسة الدولة والقيادة في الجيش، والقضاء بين المسلمين، والولاية على الصدقات ونحو ذلك".
تابع: "وقد ميّز علماء المسلمين بين ما يسمّى "وزارات التنفيذ" و"وزارات التفويض"، فقالوا بجواز تولّي غير المسلمين لوزارات التنفيذ من دون وزارات التفويض. وذلك لأنّ "وزير التنفيذ يُبلَّغ أوامر الإمام ويقوم بتنفيذها (...) بخلاف وزارة التفويض التي يكل فيها الإمام إلى الوزير تدبير الأمور السياسيّة والإداريّة والاقتصاديّة بما يراه".
أضاف: "يعتبر السيّد محمّد حسين فضل الله أنّ الإسلام دين عبادة ودين مدنيّة، وعلى هذا الأساس يعطي الإسلام لغير المسلمين دورًا في مجتمعه، فيقول: "إنّ الجانب المدنيّ في الإسلام يعطي للمسيحيّين حقّ المواطنيّة كما يعطيها للمسلمين مع بعض التحفّظات التشريعيّة التي لن تنال من كرامة أحد".
تابع: "يدافع فضل الله أيضًا عن تعبير "أهل الذمّة" منطلقًا من كون غير المسلمين "أقلّيّة" في الدولة الإسلاميّة وينطبق عليهم ما ينطبق على غيرهم من الأقلّيّات، سياسيّة أو دينيّة، في أيّ دولة من دول العالم. ويعتبر أيضًا أنّ هذا التعبير لا يسيء إلى "إنسانيّة الإنسان بل يحترم إنسانيّته ويضمن له حقوقه". وإذا تساءل المسيحيّون لماذا لا نستطيع الوصول إلى المناصب العليا للقرار؟ فالجواب عند فضل الله موجود: "فأيّة دولة تقوم على فكر معيّن لا يمكن أن تسمح لأيّ شخص لا يؤمن بهذا الفكر من أن يصل إلى مراكز القرار".
تابع: "غير أنّ القرضاوي يصرّ على إعلاء الرابطة الدينيّة على كلّ ما عداها من الروابط. لذلك، يرفض التسامح القائم على "تمييع" الأديان، بدعوى "الوطنيّة أو القوميّة" معتبرًا أنّه لنفاق زائف إعلاء الرابطة الوطنيّة أو القوميّة على الرابطة الدينيّة، أو إعلاء العلمانيّة على الرابطة الدينيّة. ويرفض، تاليًا، التنازل عن دينه أو تركه بدعوى التسامح أو الانفتاح".
أضاف: "ويرفض محمّد الغزالي، بدوره، مفهوم القوميّة إذا تعارض ذلك مع إيمانه بالإسلام. وهو يعتقد أنّ الوحدة الوطنيّة والقوميّة بين المسلمين والمسيحيّين ينبغي ألاّ تقوم على مبدإ الابتعاد عن الإيمان أو باعتماد العلمانيّة، فيقول: "أمّا أنّنا مصريّون فنحن لا ننكر وطننا ولا نجحده، وأمّا أنّ شرط المصريّة الصميمة الانسلاخ من الإسلام فهذا ما نستغربه. "أيّ غضاضة يا قوم، في أن تكون الوحدة الوطنيّة بين متديّنين لا ملحدين".
ورأى "بالنسبة لوثيقة الأزهر" (حزيران 2011)، التي أعلنها الدكتور أحمد الطيّب شيخ الأزهر، في شأن مستقبل مصر يلاحظ العديد من الأمور الإيجابيّة التي تتضمّنها. وأهمّ هذه الأمور ما ورد في البند الأوّل عن "دعم تأسيس الدولة الوطنيّة الدستوريّة الديموقراطيّة الحديثة"، القائمة على "دستور ترتضيه الأمّة، يفصل بين سلطات الدولة ومؤسّساتها القانونيّة الحاكمة، ويحدّد إطار الحكم، ويضمن الحقوق والواجبات لكلّ أفرادها على قدم المساواة، بحيث تكون سلطة التشريع فيها لنواب الشعب"، ولكن سرعان ما يشعر القارئ بالتناقض حين تشترط الوثيقة أن تكون سلطة التشريع المنوطة بنواب الشعب متوافقة "مع المفهوم الإسلاميّ الصحيح"، وحين تشترط أيضًا "أن تكون المبادئ الكلّيّة للشريعة الإسلاميّة هي المصدر الأساسيّ للتشريع". وينصّب عبر هذه الوثيقة الأزهر نفسه سلطةً عليا فوق سلطة مجلس النواب".
وتسأل الأب مسوح : "أليس تنصيب الأزهر نفسه مرجعًا على الدولة إنّما هو نوع من أنواع الدولة الدينيّة الكهنوتيّة؟ ألم يقع الأزهر، بذا، في الفخّ الذي يحاول تحذير الناس منه؟
ورأى أن "صحيح أنّ الوثيقة تقرّ "لأتباع الديانات السماويّة الأخرى الاحتكام إلى شرائعهم الدينيّة في قضايا الأحوال الشخصيّة"، غير أنّ هذا لا يكفي للقول بأنّ مواطنة غير المسلمين قد أضحت كاملة بفضل هذا الإقرار. فالمسألة ليست في الأحوال الشخصيّة أو في بناء الكنائس أو في سواها من القضايا، بل في المساواة التامّة في الحقوق والواجبات الفرديّة. وما يؤكّد حذرنا هو رأي الدكتور حسن الشافعي مستشار شيخ الأزهر بالدولة الوطنيّة الديموقراطيّة التي هي، وفق قوله، "دولة الدين الإسلاميّ الرئيسيّ للتشريع (...)".
تابع: "فالجميع يجب أن يدرك أنّ تطبيق الشريعة الإسلاميّة هو ضمان للتعدّديّة وحرّيّة الاعتقاد وممارسة العبادات لأصحاب الديانات السماويّة الأخرى، الذين تكفل لهم الشريعة الإسلاميّة أيضًا الاحتكام إلى شريعتهم فيما يتعلّق بشؤونهم وبالأخصّ في الأحوال الشخصيّة". ليست الشريعة الإسلاميّة هي الضمان للتعدّديّة وحرّيّة الاعتقاد... بل الدولة المدنيّة الحقيقيّة التي تحترم الاعتقادات الدينيّة والتي لا سلطة دينيّة تعلو عليها، هي الدولة المدنيّة التي يعود سلطان التشريع إلى الشعب وحده ممثّلاً بنوابه المنتخبين.
أضاف: "مع ظاهر الإيجابيّات التي تتضمّنها الوثيقة الأزهريّة، ثمّة أفخاخ عديدة قد تؤدّي إلى عكس ظاهرها. وليس التأكيد على مرجعيّة الأزهر، الذي يمكن وضعه في سياق قطع الطريق أمام مرجعيّات سلفيّة أو متشدّدة، سوى تأكيد على مأزق الفكر الإسلاميّ في شأن الدولة المستقبلة. متى ستخرج المؤسّسات الدينيّة من الازدواجيّة في الخطاب، ومن الجمع ما بين أمرين لا يجتمعان؟
وختم بالقول: "المواطنة، وفق الأدبيّات الفقهيّة الإسلاميّة، هي مواطنة ينقصها المشاركة في القرارات التشريعيّة والعسكريّة. وأهمّ عامل يمكن التدليل به على المواطنة الصحيحة والمساواة التامّة بين المواطنين إنّما هو المشاركة في شؤون الدولة كلّها ولا سيّما التشريعيّة والعسكريّة بالإضافة إلى السياسيّة. لذلك، يسعنا القول بأنّ ثمّة ظاهرًا وباطنًا في هذه الأدبيّات، فاصطلاح "المواطنة" ليس سوى "ذمّيّة" كامنة تنتظر الظروف المؤاتية لتصبح واقعًا ملموسًا".