الاختلافات التي برزت في وجهات النظر في كلمات "الكبيرين" البابا فرنسيس وشيخ الأزهر
ر) في السابع والعشرين والثامن والعشرين من شهر نيسان الفائت حلّ قداسة البابا فرنسيس "ضيفاً كريماً على ارض مصر". استقبلته مصر شعباً ومسؤولين. دينيين ومدنيين. مسيحيين ومسلمين. زيارته هذه "تاريخية لمصر وللأزهر الشريف" كما وصفها شيخ الازهر نفسه. وهي بالفعل زيارة تاريخية الى مصر التاريخ. مصر "التي تجلّتْ عبرَ التاريخِ للعالم كأرضِ حضارةٍ وأرضِ عھود"، كما قال قداسة البابا. مصر الفراعنة التي شعّت على العالم حضارة وعلماً وعمراناً. لا تزال آثارها تستقطب الشعوب من كافة اقطار المسكونة. وابتكاراتها العلمية "المؤلِّفة" (بكسر اللام) لغزاً لعلماء اليوم. مصر ارض العهد بين الله وشعبه. على جبل سينائها اعطى الله وصاياه لموسى. واقام عهده مع البشرية. عهد الإيمان والمحبة… مصر التي استقبلت "المخلّص" منذ ألفي عام. فخلصته من اضطهاد هيرودس. مصر كل هذا. وقد ذكره الرئيس عبد الفتاح السيسي في خطاب الترحيب بـ "الضيف العزيز والشخصية الفريدة". كما استذكره البابا فرنسيس في كلماته.
لم تغب "قضايا العصر" عن خطابات زيارة البابا التاريخية: الارهاب، والتطرّف، وصراع الحضارات، والحروب، والقتل والدمار والتهجير و… وقتل الانسانية. فعمدت تلك الخطابات الى توصيف اسباب كل هذه واقتراح الحلول للخروج من دوامة العنف. هذا لا يعني ان الرؤى كانت متطابقة. لكنها لم تكن مختلفة بالكامل.
قبل الغوص في تحليل الكلمات التي القيت يجب التنويه بالحفاوة التي لقيها البابا فرنسيس في مصر. وهي ليست غريبة عن مصر والمصريين. فهي ايضاً تاريخية وجزء من تقاليد الشعب المصري. ولكن ابعد من تقليد الضيافة المصرية المعهودة، كان لهذه الحفاوة بـ "الضيف الكبير" هدفان أساسيان:
الاوّل سياسي، للتأكيد ان مصر اليوم ليست مصر الاخوان المسلمين و"الارهاب الاسلامي". إنما هي مصر المنفتحة على الاديان والحضارات المختلفة وعلى المواقف التي " تقوم على تشجيعِ التسامح والسلام والتعايش بين جميع الأمم". وللتأكيد ايضاً ان مصر "تقفُ في الصفوفِ الأولى في مواجهة هذا الشر الإرهابي.. يتحمل شعبُها.. في صمودٍ وإباءٍ وتضحية.. ثمنًا باهظًا للتصدي لهذا الخطرِ الجسيم.. عاقدين العزم على هزيمتِه والقضاءِ عليه…"، كما جاء في كلمة الرئيس المصري.
الهدف الثاني له بعد اقتصادي. فقد اراد النظام المصري الإثبات للعالم ان الامن مُصان في مصر، على رغم الضربات التي تقوم بها بعض التنظيمات الاصولية من وقت لآخر. فهذه تحدث في العديد من بلدان العالم. وكانت احدى محطاتها بالامس القريب في باريس. والهدف اعادة تشجيع شعوب الارض على السياحة في ارض مصر التي تدرّ اكثر من 4 مليارات دولار سنوياً.
من هنا كانت التدابير الامنية الاستثنائية. وربما ساهم اعتذار البابا عن الاقامة في أحد القصور الرئاسية وقضاء ليلته في السفارة البابوية في بعث رسالة الأمان هذه. وكذلك تحيته المؤمنين في استاد الدفاع الجويّ من على عربة عادية متواضعة وليس من داخل سيارته المصفّحة. فهو رفض اصطحابها معه.
بالعودة الى الكلمات التي القيت في "الزيارة التاريخية"، لا شك انها التقت على رفض الارهاب ونبذ التطرّف. ودعت الى التسامح الديني وغيرها من أدبيات هذا العصر في مواجهة الارهاب الديني. ولكن اختلافاً برز في خطابي قداسة البابا والشيخ الأكبر في افتتاح مؤتمر السلام. الاول في توصيف اسباب ازمة الارهاب العالمية. والثاني في اقتراح الحلول للخروج منها.
نبرز ذلك ليس للتشويه على الامل الذي تبلور من خلال زيارة الحبر الاعظم الى اكبر مرجعية اسلامية في العالم. وليس لوضع العصي في طريق "دواليب" الحوار المسيحي – الاسلامي. فنحن سررنا ان هذا الحوار قد استؤنف بعد فترة توقف اعقبت تصريحات البابا السلف بنديكتوس السادس عشر، على خلفية الاعتداء على كنيسة مصرية في العام 2011 والذي طالب فيها السلطات المصرية بحماية المسيحيين في مصر. إنما نلفت النظر الى بعض نقاط الاختلاف انطلاقاً من قول البابا حول "ضرورة الهويّة، وشجاعة الاختلاف، وصدق النوايا" كـ "ثلاث توجّهات أساسية… تساعد في الحوار". ما هي أبرز هذه النقاط؟
اولاً، الاختلاف في توصيف اسباب موجة العنف التي تضرب العالم، وبخاصة منطقة الشرق الاوسط. فقد وصفه البابا فرنسيس بـ "العنف الاعمى". وحدّد بأنه ناتج "عن عدّة عوامل: الرغبة الجامحة في السطلة، وتجارة الاسلحة، والمشاكل الاجتماعية الخطيرة، والتطرّف الديني الذي يستخدم اسم الله القدّوس لارتكاب مجازر ومظالم مريعة". بينما رمى شيخ الازهر باللائمة على "تجارة السلاح وتسويقه، وضمان تشغيل مصانع الموت، والإثراء الفاحش من صفقات مريبة، تسبقها قرارات دولية طائشة". وما قاله الشيخ أحمد الطيّب له صداه في المجتمعات الاسلامية العربية منها وغير العربية. ويردّده العديد من النخب الاسلامية وعامّة الناس. وكأنهم يرمون باللائمة على بعض الدول الاقليمية والقوى العالمية كمسؤولة وحيدة عما تتخبّط به المنطقة من ازمات وعنف وحروب. صحيح ان هذه الاخيرة تستفيد من تجارة السلاح المتعاظمة في المنطقة التي غدت منذ سنوات السوق الاساسية لتجارة السلاح في العالم. وصحيح ايضاً ان هذه الدول تعمد الى تجربة اسلحتها وصواريخها الحديثة في جغرافيات دول المنطقة، تحت حجّة محاربة الارهاب. وصحيح ايضاً وايضاً، ان بعض الدول الاقليمية تعمد الى توسيع نفوذها من خلال تزويد دول ومجموعات متطرّفة بالسلاح. ولكن هذا لا ينفي مسؤولية التطرّف الديني في الاسلام. ليس هو العامل الوحيد. ولكنه عامل مهم في ما وصلت اليه المنطقة منذ عقود. ولولا وجود هذا العامل لاختارت الدول وسيلة أخرى لبسط نفوذها والحكام لتوطيد حكمهم. بالتالي يجب وضع الإصبع على الجرح. وتوصيف المشكلة على حقيقتها. وبرأينا هذا ما قام به قداسة البابا. وكان شجاعاً بذلك.
التوصيف الدقيق يقود الى اقتراح الحلول الناجعة للخروج من دوامة التطرّف. وهنا كانت المقاربات مختلفة بين قداسة البابا والشيخ الأكبر. الاول شدّد على "التربية". التربية على "البحث عن المعرفة وقيمة التعليم" اللذين هما "خياران ينبعان من السلام ويهدفان الى السلام". لأن اي تربية يجب ان تستجيب "لطبيعة الانسان، الكائن المنفتح والعلائقي". هذا الكائن هو الذي يقبل الآخر. أي آخر. بغض النظر عن عرقه ولونه ودينه ولغته… لا بل هو الذي يبحث عن الآخر المختلف لأن في ذلك كمالاً لبعده العلائقي. دونه يكون هذا البعد الاساس في طبيعة الانسان، الذي تتّفق عليه الاديان والفلسفات، ناقصاً.
من جهته دعا شيخ الازهر للعودة الى الدين. إنه "الترياق" الذي "يضخّ الحياة في المذاهب الفلسفية، والقوالب العلمية والعملية الجامعة، وأن هذا الترياق لا يوجد إلا في صيدلية الدين والدين وحده"، بحسب ما جاء في كلمته في اطلاق مؤتمر السلام العالمي. لكن السؤال كيف السبيل الى "تربية" موحّدة في وطن متعدّد الاديان. أليست التربية الانسانية؟ بطبيعة الحال هذه التربية تكون مستوحاة من التعاليم الدينية التي تتخّذ من الانسان وخلاصه هدفاً لها.
على رغم هذه الاختلافات في وجهات النظر التي برزت في كلمات "الكبيرين"، كان اللقاء بينهما مهماً جداً للدفع في الحوار نحو الامام، ولتعميقه. والحوار هنا لا نقصد به في المسائل اللاهوتية. فلكل دين عقائده وطقوسه. وليس لغير المؤمن مقاربتها إلا من باب التعرّف اليها لتعميق معرفته بالآخر المختلف والعيش معه بسلام. ولكن يجب الاتفاق على مفاهيم مشتركة للعيش معاً كمختلفين في الإيمان على قاعدة القاسم المشترك. الانسان. وفي الوطن على قاعدة المواطنة. وهذا لا يحدث إلا بتطبيق مبدأ "الدين لله والوطن للجميع" الذي كان شعار ثورة 23 يوليو 1952 والذي ذكّر به البابا في مصر بالامس.