محاضرة المطران الجميل عن الموارنة
المطران الجميل يحض الموارنة على استخلاص عِبَر التحالف القديم بين الفاتيكان وفرنسا لإنتاجلغة جديدة دفاعاً عن القضايا الكبرى
لفت راعي أبرشية الموارنة في فرنسا، والزائر الرسولي على أوروبا، المطران مارون ناصر الجميل،في محاضرة له بعنوان : "الموارنة بين الحال الراهنة والرجاء"، إلى ضرورة إنتاج لغة جديدة بعيدة عن العقد والزبائنية التي طبعت عقلية التعاطي سابقاً مع الغرب والشرق، واستخلاص عبر التجربة التاريخية مع كل من الفاتيكان وفرنسا لكي يبقى للموارنة خصوصاً ولمسيحيي المشرق عموماً هويتهم الخاصة بهم ودورهم في رفع لواء القضايا الكبرى.
وبعد القداس الالهي، استهل خادم رعية كنيسة سيدة لبنان في باريس الأب فادي المير، المحاضرةالتي نُظٍمت بمناسبة ثلاثية عيد مار مارون، بكلمة ترحيب ، ثم استعرض المطران الجميل بالتحليل المقرون بالأمثلة والأدلة المحطات الرئيسة لنشوء المارونية وانتشارها والتحديات التي واجهتها في مختلف الحقبات. وشددا على أن الفاتيكان وفرنسا كانا حليفين تاريخيين للموارنة حيث ساهما،من جهة في إشراك الكنيسة المارونية في المشروع الثقافي والديني الروماني، ومن جهة أخرى في المشروع السياسي الاقتصادي الفرنسي. ذلك أن تطور الكنيسة المارونية لا يمكن عزله عن مجمل العلاقات الدينية والسياسية والاقتصادية بين الشرق والغرب. وبفضل تطابق مصالح الحلف الفرنسي ـ الروماني، اعتمدت الكنيسة المارونية الحداثة الأوروبية التي تُوٍّجت بإنشاء لبنان المتعدد الطوائف، وكان من الصعب تصور مصير هذه الكنيسة المارونية الصغيرة ومآلها، من دون هذا التحالف وهذا التطابق في المصالح.
وأوضح المطران الجميل أن الفاتيكان كان يسعى منذ الانقسام الكبير (1054) وحروب الفرنجة ،إلى وحدة الكنيسة. وبعد نشوء الحركة البروتستانتية وجد في الكنيسة المارونية حليفة له في مقابل محاولة التوسع البروتستانتية باتجاه كنائس المشرق. إلا أن مجمع تريدنتيني الذي انتهى في1563 أدى إلى انفتاج الموارنة على الثقافة الغربية من خلال إنشاء المدرسة المارونية في روما في 1584 ، الأمر الذي كرس الانفتاح الفكري الجدي لهذه الكنيسة الانطاكية السريانية الصغيرة على كنيسة روما اللاتينية الكبيرة. وخلال قرنين كان هذا المعهد ضرورياً لتطور الاستشراق في أوروبا الذي وفر للشرق وللغرب، على حد سواء، علماء ذائعي الصيت شكلوا صلة وصل بين ثقافتين وعالمين.
أما مصالح فرنسا الاقتصادية فهي، برأيه، عامل آخر لا يقل أهمية عن العلاقة مع الفاتيكان إذ دعّم انفتاح الموارنة على الغرب. فالوضعية الجديدة التي خلفها الانشقاق البروتستانتي دفنت مشروع الحروب الصليبية الأوروبية ضد الأتراك إلى غير رجعة... وأصبحت الحاجات الاقتصادية هي التي تتحكم "بالخيارات السياسية".
من هنا جاء الاتفاق الذي عرف "بنظام الامتيازات الاجنبية" بين الملك فرنسوا الأول والسلطان سليمان القانوني في عام 1535 ليحمي المصالح الاقتصادية والسياسية الفرنسية في المنطقة لاسيما في "أساكل المشرق" أي في مدن إزمير وطرابلس وحلب وصيدا والإسكندرية التي كانت داخل السلطنة العثمانية. وغدت حماية المصالح التجارية أساساً للديبلوماسية الفرنسية في المشرق فضلاً عن حماية المسيحيين والإرساليات الكاثوليكية.
ثم انتقل المطران الجميل في عرضه إلى ظروف انشاء دولة لبنان الكبير المستقل والمتعدد، إذ كان من مصلحة فرنسا الانفتاح على الموارنة، وهم كانوا تواقين للخروج من عزلتهم...
وعن المخاطر التي تحدق بالموارنة وبمسيحيي المشرق في الوقت الراهن، تخوف المطران الجميلمن إلغاء حرية العبادة ورفض حق الاختلاف وانخفاض نسبة الولادات وازدياد هجرة المسيحيين وبيعهم أراضيهم والانقسام داخل صفوفهم وانخفاض مستوى تمثيلهم السياسي ومعرفتهم بالتعليم المسيحي... ناهيك عن اختلال التوازن الطائفي داخل القوات المسلحة والأمن والمصارف على حساب المسيحيين، في حين يطرح مئات الآلاف من اللاجئين والنازحين مشاكل جمة للحفاظ على التوازن الطائفي والوحدة الوطنية.
وعدّد بعض الحلول في مختلف الميادين أبرزها التمسك بالأرض وعدم بيعها، وانتهاج سياسة تشجع المهاجرين للمساهمة في الاستثمار في الوطن الأم ولاسيما في القرى والأرياف، ومواصلة تعزيز الحلول في ما يتعلق بأراضي الوقف الكنسي لتلبية الحاجات والطلبات من مساكن منخفضة الأسعار والتكلفة، والتشديد على أهمية العائلة والتماسك بين أفرادها في ضوء التعاليم والقيم المسيحية، وعلى دور الكنيسة في جمع شمل الموارنة على مختلف أهوائهم وآرائهم لأنها الوحيدة القادرة على ذلك، وإقامة تنسيق وثيق ومنتظم مع مختلف الكنائس المشرقية، والعمل على أفضل تأهيل للاكليريكيين ودعم وسائل الاعلام الكاثوليكية، والاعتناء الخاص بالتراث الماروني والوثائق والمستندات خوفاً من لهيب نار الحروب والسرقة ، ودعم الانتاج الفكري لدى الموارنة لاستعادة دورهم الثقافي والعلمي والفني على الساحة الدولية.
وفي خلاصة محاضرته، قال المطران الجميل : "ان انفتاح الموارنة ومسيحيي المشرق على الغرب ساعدهم على الحفاظ على "فرادتهم" واستقلالهم. ومن المؤكد أن تقدمهم يعود إلى صلابة إيمانهم لكنه عائد أيضاً إلى تقاطع مصالح القوى العظمى في حقبة سابقة. ويظل السؤال المطروح اليوم هو : كيف يمكن الحفاظ على الذات وعلى المصلحة التي لا بد منها، على حد سواء، من أجل الدفاع عن القضايا الكبرى؟".
وتساءل:"ألسنا في منعطف حاسم من تاريخنا؟ بلى بالتأكيد. وعليه لا يمكننا التفكير وفق المقاييس الغابرة. ينبغي أن نمحو من تاريخنا الاعتقاد بأن الآخرين، غربيين أو شرقيين، القريبين أو الأبعدين، قادرون على حل مشاكلنا".
ورأى المطران الجميل أنه لا مندوحة من مداواة المرضين اللذين يتربصان بالماروني وهما الحسد الذي يبلغ أحياناً حد الكراهية، وعبادة المال التي تفضي إلى الوثنية والزبائنية. وإذا كنا قد بدأنا بخسارة الأرض والتأثير فبسبب سوء الادارة (...). ولا بد من أن تعلو المصلحة الوطنية علىالمصلحة الطائفية لتأمين قيام بلد متوازن العيش وواعد بالتقدم".
وعلى الرغم من كل ذلك، اعتبر المطران الجميل "أننا لا نزال نحتل موقعاً استراتيجياً في المشرق. ونبقى صلة وصل بين العائلات اللبنانية والمشرقية، وبين المشرق والغرب".
وشدد على "أن البعد الثقافي لمسيحيي لبنان والموارنة خصوصاً راسخ في هذه الخارطة الجغرافية وفي كل ماضيهم. ودورهم لن يكون بالتخلي عن المكتسب الثقافي الغني الذي راكمهآباؤهم بإيمان خلال القرون الماضية. فلنعترف مع ذلك، بعد أربعين عاماً من الحرب والمآسي، بأن فكرة "الأمة اللبنانية" وفكرة المواطنة حققتا تقدماً في وسط كل العائلات الدينية. ولكن يبقى ما يجب العمل عليه لكي تعلو المصلحة الوطنية في الأوقات العصيبة على المصلحة الطائفية".
وختم بالقول:" ليس المطلوب من المفتاح أن يكون ضخماً بل دوره هو فتح الباب... فعلى الرغم من أربعين عاماً من الحرب، تظل بيروت هي أحد مفاتيح العالم العربي، وتبقى كنائس المشرق ومن ضمنهم الموارنة جسر تفاعل وتواصل وحوار بين المسيحية والاسلام".
وبعد انتهاء المحاضرة، دُعِي الحضور إلى تقديم التهاني للمطران الجميل بعيد شفيعه مار مارون في الصالون الشرقي في البيت الفرنسي ـ اللبناني.
Source: Association des anciens du séminaire patriarcal de Ghazir
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire
Remarque : Seul un membre de ce blog est autorisé à enregistrer un commentaire.