٤٠ بالمئة من المسيحيين يغردون خارج سرب ٨ و ١٤ اذار . من هم هؤلاء!
تظهر استطلاعات عدة أخيرة أن المسيحيين في لبنان لم يعودوا مقسومين بين نصفين، نصف مؤيد للحكومة الحالية، ونصف ثان مصطفّ خلف المسيحيين المعارضين لها. بل باتوا موزعين على ثلاثة أقسام: من هم مع الحكومة، ومن هم مع المعارضة، ومن هم خارج أي تأييد للطرفين المتناقضين. والأبرز في تلك الاستطلاعات أنها تعطي القسم الثالث أكثرية نسبية بين المسيحيين. أي بنسبة أكبر من نسبة أي من الفريقين المتصارعين. بحيث تراوح نسبة «الخيار المسيحي الثالث» بين 37 و40 في المئة، بحسب الاستطلاعات المذكورة.
معطى جديد لافت في مؤشراته. وإن يكن حتى اللحظة غير ظاهر في موازين السياسة المحلية. وهو ما يدفع إلى الذهاب بحثاً عن هؤلاء، وعن خطابهم السياسي، ومشروعية امتعاضهم أو مشروع تموضعهم الرفضي الجديد، وعما يمكن أن يكون «مانيفستو لا حزبهم» الأكثري المستجد. بين طالب جامعي وباحث اجتماعي، وبين موظف ومثقف، تطول لائحة البنود التي تسمعها وترصدها. لتصير نوعاً من بيان معارضة مسيحية أخرى، هذه أبرز موضوعاتها:
بداية تسأل هؤلاء، لماذا يعارضون مسيحيي الحكومة الراهنة؟ جوابهم الفوري: نتيجة أعباء حلفائهم عليهم وعلينا وعلى البلد. منذ البداية لنكن صريحين، نحن مع مقاومة حزب الله. ونحن معها لا حتى تحرير كل أرضنا والدفاع عن كل ثرواتنا وحسب، بل أيضاً حتى تأمين حل عادل للاجئين الفلسطينيين، أقله المقيمين على الأرض اللبنانية. وذلك انطلاقاً من هاجس المسيحيين التاريخي ــــ والعنصري ربما ــــ حيال خطر التوطين، كما من ذاكرتنا ــــ المريضة ربما ــــ بمشهد اندلاع حرب العام 1975. هذا موقفنا الواضح. لكن مع ذلك، ومنذ مدة غير قصيرة، باتت لنا تساؤلات كثيرة حول بيئة حزب الله. من نوع: لماذا معظم الفضائح التي تضرب مقوّمات البلد تنبت في هذه البيئة؟ لماذا حوادث الإفلاس المريبة الكبرى في هذه البيئة؟ لماذا الأدوية المزورة في هذه البيئة؟ لماذا المخدرات زراعة وتهريباً؟ لماذا عصابات سرقة السيارات؟ لماذا إذا خطفت الدكتورة كنج، تبين أنها أُخذت إلى الضاحية؟ ولماذا جوزف صادر اختفى هناك أيضاً؟ ولماذا إذا هُددت محطة لمؤسسة كهرباء لبنان، كانت هذه المحطة إما في الزهراني وإما في بعلبك؟ ولماذا إذا خُطف راهب ماروني لبناني، لأن فتاة جاءت تسأله عن يسوع، تبين أن خطفَ الراهب وخاطفيه في تلك البيئة أيضاً؟ فضلاً عن مافيات الجمارك في المرفأ والمطار، وعن التهريب في لبنان وخارجه وعن وضع اليد على الأراضي... نحن أبناء البلد أيضاً، ونعرف كل ما فيه. مع إدراكنا أن لا علاقة للمقاومة بذلك. لكننا بتنا نرى أن وجود المقاومة في بيئتها، يترافق مع اندثار الدولة في تلك البيئة نفسها. وهذا أمر خطير، لا يمكن للبنان أن يعيش في ظله، ولا يمكن للمسيحيين أن يتعايشوا معه.
أكثر من ذلك، وانطلاقاً أيضاً من كوننا مع المقاومة، لكن في الآونة الأخيرة أيضاً، أثيرت لدينا تساؤلات أكثر تعقيداً. مثل، ما معنى أن يدعو السيد حسن نصرالله إلى حملة تحت شعار «لبيك يا رسول الله»، بحجة شريط سينمائي سخيف موجود قبل الحملة بأشهر طويلة على شبكة الإنترنت، ولم يشاهده في الصالة الوحيدة التي عرضته إلا نحو عشرة اشخاص؟ ألم يجيِّر السيد هالته كقائد للمقاومة التي ندعم ونؤيد من أجل حملة دينية؟ ما علاقة المقاومة بالقضية الدينية؟ إذا لم تكن ثمة علاقة، لماذا هذا الدمج؟ وإذا كان العكس صحيحاً، فهذا يعني أن مشروع المقاومة هو أيضاً مشروع ديني مذهبي وتيوقراطي، على الطريقة الإيرانية تماماً، ووفق نموذج الثورة الإيرانية بالذات، التي بدأت ثورة غير دينية، وانتهت نظاماً تيوقراطياً بامتياز. إنها مسألة تعيدنا إلى أكثر من تساؤل حول منع شرب الكحول في بعض المناطق، وحول تفجيرات صور، وحول هذا «الغموض الخلاق» بين مشروع المقاومة ومشروعيتها، وبين مشروع حزب الله ومقوّمات كل من الاثنين.
وصولاً إلى الأحداث السورية. نعم نحن نعتقد بأن حزب الله بات متورطاً فيها. لا نعرف منذ أي تاريخ ولا بأي وسائل أو إلى أي حد. لكن تورطه ثابت. وهو تورط يعني بالنسبة إلينا أمراً واحداً: استدراج الحرب الأهلية السورية إلى الداخل اللبناني عاجلاً أم آجلاً...
المشكلة أيضاً مع مسيحيي المعارضة، حلفاؤهم، يجيبون. أوليسوا بداية هم أنفسهم من حكم في زمن الاحتلال السوري سعيداً من دون حرج ولا رفّة عين؟ ما هذه المصادفة في أن يكون هؤلاء مع الاحتلال عندما يؤمّن وجودهم في السلطة، وضده بعد جلائه، إذا ما ضمن هذا الموقف بقاءهم في السلطة أيضاً؟ أليس في ذلك انتهازية سياسية واضحة، ثابروا على ممارستها بالازدواجية نفسها، مع حزب الله للبقاء في السلطة سنة 2005، وللبقاء في السلطة ايضاً زمن الـ «س/س» سنة 2009؟ كيف تصدق إذاً ما يطرحونه للحاضر والمستقبل؟ يقولون لنا تفنيداً لهذا الاتهام انهم دفعوا شهداء ثمناً لمواقفهم هذه؟ تريد صراحة أكثر؟ نحن نرى إنها حفلة تصفيات بين عصابتين، بين مافيتين، في بيروت والشام، على مغانم نهب وطننا وسرقة ثرواته. فمتى رأيت ضحايا حرب آل كورليوني وآل تاتاليا يتحولون إلى شهداء؟
ثم نسأل مسيحيي المعارضة: أوليس حلفاؤكم هؤلاء هم أنفسهم مصدر الخطر الأول على نظامنا التوافقي الميثاقي، في مقوماته البنيوية الأساسية، أمس واليوم وحتماً غداً؟ نسألكم في الديمغرافيا، أليسوا هم من أضاف بشطبة قلم نحو 8 في المئة من مجموع اللبنانيين عبر صفقة التجنيس بينهم وبين عبد الحليم خدام سنة 1994؟ وبأي خلفية وموازين وحسابات تمت تلك الإضافة؟ هل تنقصكم قرائنها الثابتة في لوائح الشطب وفي دائرة زحلة وفي عشرات البلدات والبلديات المنقلبة على هوياتها الأصلية؟ ثم نسألكم في الجغرافيا: أليس حلفاؤكم هؤلاء هم أنفسهم من طبلتم آذاننا طيلة عقد بأنهم من يغير هوية الأرض بعد السكان؟ أليسوا هم من احتكروا كل قصور رؤساء الجمهوريات السابقين، واشتروها مجموعة تحف أثرية في محفظتهم التجارية، من أجل محو ذاكرتكم وذاكرتنا، كما كنتم تقولون لنا؟ أليسوا هم من قال عنهم الكاردينال صفير، الموثوق عندكم، في الأول من حزيران 2007، أن «هناك فئة لبنانية على ما يبدو تقبل بالتوطين»؟ ثم نسألكم في الاقتصاد: أليس حلفاؤكم هم أنفسهم من عمل طيلة عقد كامل على ضرب قطاعاتنا الوطنية الإنتاجية، في الزراعة والصناعة، لأنها قطاعات لبنانية، والبعض يقول مسيحية، ومن ثم عملوا على السيطرة على القطاع المصرفي، ونسف هويته؟ أليسوا هم من أفقر الدولة بشكل منهجي مدروس، فانتهوا إلى ربط المواطن والخزينة، بقطاع مصرفي مرتهن لخارج خليجي، هو الخارج الذي يقودهم ويرتهنون له؟ ثم نسألكم في نظامنا التوافقي: أليس حلفاؤكم هم أيضاً خصومكم الوحيدين في أي سلطة تنفيذية لبنانية؟ أليسوا هم من يمنع رئيس الجمهورية الذي يمثلكم، من ممارسة أي صلاحية دستورية، عبر محاصرته في مجلس الوزراء وبما يسمى الأمين العام لذلك المجلس وبجدول أعماله وصياغة مقرراته الاستنسابية، وباختزال الدولة بأكثر من 60 مؤسسة عامة أساسية صارت تابعة لرئيس الحكومة، خلافاً لأي دستور أو ميثاق؟ أليسوا هم أنفسهم من فرض هذا الأمر الواقع طيلة عقد ونيف، حتى وضعوا يدهم على كل مقومات البلد، من قلب العاصمة إلى بريدها ومطارها وهاتفها، لولا «غدرات الزمن»؟ هل تتصورون مستقبل البلد معهم في غياب توازن حزب الله، أو في ظل ما بعد «حكم الإخوان»؟
وصولاً هنا أيضاً إلى الحرب السورية: ماذا يفعل حليفكم سعد الدين الحريري في تلك الحرب؟ أي دور يؤدي هناك وبأي وسائل ولصالح من؟ هل اللعب على خطوط الجهاديين والدم وأسلحة القتل والإبادة والتصفيات، هو من ضمن قواعد «لبنان أولاً»؟ كلنا يعلم أن ما من شخص واحد بيننا مغروماً بالنظام السوري. لا بل نحن أول وأكثر من عرف ظلمه وعسفه وقهره وجوره. لكن بالصراحة نفسها نقول، انه لو سقط بشار الأسد قبل سنة ونصف، لكانت أمام سوريا فرصة مماثلة لما هو اليوم في تونس: شيء من تحالف دقيق بين «إخوان» وليبراليين ويساريين، مفتوح على تنافس شبه ديموقراطي. ولو سقط الأسد قبل ستة اشهر، لربما كانت سوريا على موعد مع شيء من التجربة المصرية: أرجحية «إخوانية» في صراع مع الآخرين. أما من اليوم فصاعداً، فكلنا ندرك أن سقوط النظام يعني فتح سوريا على تجربة تراوح بين أفغانستان طالبان، وبين صومال الفوضى المطلقة. وها هي نُذر ذلك من إمارات تيوقراطية قد بدأت في حلب. فماذا يفعل ابن الحريري حليفكم هناك؟ ألا تدركون أنه إذا انتصر وتركه حلفاؤه حياً، سيكون مضطراً لحكمكم وحكمنا باسم توجهاتهم الأصولية نفسها؟ وإذا انتصر وتحول حطب ثورة الجهاديين، ولم يبقوه بالتالي حياً في السياسة، ألستم متأكدين أنهم عندها سيحكمونكم هم مباشرة، بظاهرة عصرية حديثة ما بين «الدقماقية» و«الأسيرية»؟ وإذا لم ينتصر، ألا تكون النتيجة تحول كل الجهاديين واللاجئين عندنا إلى قنابل موقوتة لتفجير الوضع اللبناني برمته، عن قصد أو نتيجة ميكانيكية لحركة الواقع اللبناني الهش؟ ماذا تفعلون إذاً، وكيف لنا أن نكون في صفكم المتهوّر والانتحاري؟
... بعد مطالعتين اتهاميتين متقابلتين، تسأل أصحاب الخيار المسيحي الثالث: ولماذا لا تحاولون التصحيح؟ فيجيبونك فوراً: وكيف نصحح؟ عبر أي مؤسسات حزبية وبواسطة أي آليات ديمقراطية؟ ألا ترى أن كل تشكيلاتنا الحزبية المسيحية ديكتاتوريات موقوفة وقفاً لشخصانيات صنمية وعائلية، ولأنصاف آلهة وأولياء وأنبياء؟ من منهم أجرى انتخاباً شكلياً واحداً في تركيبته؟ من منهم أقام ديمقراطية داخلية ولو صُورية، او أوجد حلقة واحدة لتواصل وتفاعل ديمقراطي تمثيلي حقيقي بين رأس هرمه وقاعدته؟ لا مجال لتصحيح أي شيء، فصرنا خارج كل شيء، ننتظر ونتابع ونترقب فرص الإنقاذ...
كلام مسيحي خطير، وأخطر ما فيه، أن الاستطلاعات تعطيه أكثرية مسيحية نسبية
Envoyé de mon iPad jtk