الشرق : محمد السمّاك : ممَ يخاف المسيحيون العرب؟
24 / 10 / 2011 | |
هناك ادعاء بأن ما بات يُعرف بـ«الربيع العربي» سوف ينعكس سلبا على أوضاع مسيحيي الشرق. وهناك ادعاء معاكس يقول إن المسيحيين الذين كانوا أساسا في الحضارة العربية - الإسلامية، وفى النهضة العربية الحديثة، وفي مقاومة الاستعمار الأجنبي والاحتلال الصهيوني، لا يمكن إلا أن يكونوا أساسا أيضا في الربيع العربي، وتاليا، لابد أن ينعكس ذلك خيرا عليهم. فأي الادعاءان هو الصحيح؟ لا تنطلق المخاوف المسيحية من فراغ. هناك أسباب مبررة لها. بعض هذه الأسباب واقعي. وهو يتمثل في المأساة البشعة التي حلت بالمسيحيين العراقيين على نطاق واسع. كما يتمثل في المأساة الأقل بشاعة التي حلت بالمسيحيين المصريين على نطاق أضيق. في الحالة العراقية جاء التغيير من الخارج. وفى الحالة المصرية جاء التغيير من الداخل. وفى الحالتين لم ينجُ المسيحيون من بعض تداعياتهما السلبية. لقد هدمت كنائس ودمرت بيوت، وقتل رهبان وشردت عائلات أشورية وكلدانية، سريانية وكاثوليكية، على نحو لم يعرفه العراق منذ استقلاله عن بريطانيا. لم تساعد الاضطرابات الطائفية في مصر على محو صورة المأساة العراقية، ولا حتى على التخفيف من وقعها. حمل المهاجرون المسيحيون العراقيون وقائع مؤلمة عن معاناتهم إلى إخوانهم في سوريا ولبنان والأردن. كان طبيعيا أن يتسلل الخوف إلى قلوب هؤلاء أيضا. وبدلا من أن يتساءلوا: ماذا نستطيع أن نفعل لمساعدتهم، غلب عليهم التساؤل: متى يحين دورنا؟ ولما انفجرت الأحداث في سوريا كان طبيعيا أن يتساءلوا: هل حان دورنا؟ مع تضخم الأحداث في سوريا، تضخمت علامة الاستفهام. وزاد في تضخمها غياب أي تحرك إسلامي على المستوى العربي لتبديد هذه المخاوف. كل ما حدث هو صدور بيان من هنا، وتصريح من هناك يستخف بهذه المخاوف، ويطعن بمبرراتها. غير أن الخائف من الظلام لا يطمئنه سوى النور. حاول الأزهر الشريف أن يضيء شمعة عندما أصدر وثيقته التي قال فيها بالدولة الوطنية لا الدينية. وبالمساواة بين المواطنين، وباحترام حقوق الإنسان والحريات العامة. ولكن ظلام البيانات والتصريحات الأخرى التي تحاول استخراج رفات الذميّة وهي رميم، أرخى بكلكله فوق مناطق «الربيع العربي»، فلم تعد الأولوية لدى المسيحيين تنشق أزهار هذا الربيع التي تعبق بنسائم الحرية، ولم يعد همّهم أن تتفتح هذه الأزهار ليعمّ أريجها المنطقة كلها، ولكن همّهم انصبّ على كيفية إعادة طمر هذه الرفات في غياهب الماضي بكل ما تحمله من ذكريات أليمة، وبكل ما تثيره من مخاوف على الكرامة الإنسانية. ومن هنا كان يفترض أن ينطلق موقف المسلمين ليس من أجل طمأنة مواطنيهم المسيحيين فقط، ولكن من أجل تأكيد فك الارتباط بين الإسلام كعقيدة، وبين الذمية كنظام سياسي - اجتماعي اعتمده حكام مسلمون في مرحلة زمنية غابرة. لم تكن صيغة المواطنة معتمدة أو معروفة في ذلك الوقت في دول متعددة الأديان والأجناس. ثم أسيء استخدام هذا النظام في مرحلة التقهقر والانحطاط، خاصة في أواخر العهد العثماني. وبلغت قمة الإساءة عندما انفجرت حرب التحرير اليونانية ضد الاحتلال التركي، فتحول الصراع التركي - اليوناني إلى صراع تركي - أرثوذكسي، ومن ثم إلى صراع ضد مسيحيي الشرق، حيث فرض عليهم اللباس الأسود والعمائم السوداء، وسواها من الإجراءات لتمييزهم عن بقية المواطنين. لم يفرض العرب تلك الإجراءات. ولم يكن لفرضها أساس في الإسلام. فرضها الأتراك ولأسباب سياسية انتقامية، فحمل وزرها الإسلام ظلما وافتئاتا. ولا يزال حتى اليوم. فالقاعدة النبوية لعلاقة المسلمين بالمسيحيين في الدولة الواحدة هي: «لهم ما لنا وعليهم ما علينا». وهذه القاعدة تترجم بالمساواة في المواطنة. وهي ليست مشروطة بالمساواة في العدد، لأن الحق قيمة انسانية مطلقة، وهو غير مرتبط بنسبية الأعداد. ولكن إذا كان هناك تقصير من المسلمين في التوافق على الجهر بهذه المبادئ الكلية، فإن هناك تقصيرا من المسيحيين في التوافق على الجهر بالموقف الديني والأخلاقي والوطني من «الربيع العربي». ولعل بعض السبب في ذلك يعود إلى الواقع غير السليم وغير الصحي الذي يمر به مجلس كنائس الشرق الأوسط الذي يفترض أن يمثل كل كنائس الشرق، وأن ينطق باسم مسيحيي الشرق جميعا. أدى هذا الواقع إلى تعدد مواقف كنائس الشرق، وحتى إلى تعدد المواقف داخل الكنيسة الواحدة، الأمر الذي أثار حالة من الإرباك الشديد. فالمجلس إن لم يكن موجودا، فإن الظروف الراهنة وما يرافقها من تداعيات ومخاوف تتطلب إيجاده. ومما يؤكد ضرورة ذلك، إدراك الكنائس نفسها، كذلك الدول الغربية الراغبة في مد يد العون إلى مسيحيي الشرق، بالحاجة إلى آلية صالحة وجامعة للعمل من خلالها. ولكن هناك ما يثير مخاوف مبررة من احتمالات سوء تفسير مبادرة من هذا النوع وتصويرها وكأنها تربط مسيحيي الشرق بالغرب.. وتاليا بسياسة الغرب وطموحاته وأطماعه التاريخية. وإذا حدث ذلك نتيجة خطأ ما، فإنه قد يؤدي إلى عكس النتائج التي ينشدها مسيحيو الشرق ويتعاطف معها مسلموه. وذلك بتكريس خطأ الاعتقاد بأن مسيحيي الشرق هم امتداد للغرب. وهو خطأ ألحق في الماضي أفدح الأضرار بالعلاقات الإسلامية - المسيحية، وبمبدأ حقوق المواطنة وبالتطلعات المشروعة نحو الدولة المدنية. إن أي تصرف يوفر صدقية مجانية لهذا الاعتقاد الخاطئ، ولو بصورة غيرة مقصودة من شأنه أن يعمق من هوة التباينات القائمة حاليا، وذلك بإضافة مخاوف إسلامية إلى المخاوف المسيحية. من هنا الحاجة، في إطار «الربيع العربي» العام إلى ربيع مسيحي خاص، يعيد الصدقية المسيحية المشرقية والعربية القومية، إلى مجلس كنائس الشرق الأوسط ليتمكن المجلس من ملء فراغ التحدث باسم المسيحيين جميعا، وليستأنف تاليا دوره البناء في الحوار المسيحي - الإسلامي. ثمة سلبيتين إسلامية ومسيحية لابد من تفكيكهما. تتمثل السلبية الإسلامية في تضخم -أو في تضخيم- الحضور السياسي الإسلامي في أساس حركات «الربيع العربي». أما السلبية المسيحية فإنها تتمثل في غياب -أو فى تغييب- مجلس كنائس الشرق الأوسط بصفته الناطق الشرعي باسم مسيحيي الشرق. تؤجج حالة اللاتوازن هذه بين الحضور -أو الاستحضار- الإسلامي المبالغ فيه، وبين الانكفاء -أو الاستغناء- المسيحي المبالغ فيه أيضا، من مشاعر الخوف المسيحي، ومن مشاعر الخوف الإسلامي من هذا الخوف. فالخوف يؤسس للاثقة. ومن المستحيل أن يقوم عيش واحد أو حتى عيش مشترك على قاعدة الخوف واللاثقة. عن الشروق المصرية 23\10\2011 |