فالبابا سيلستين الخامس هو البابا الوحيد الذي استقال بإرادته وبقرار منه في عام 1294. اما الباباوات الآخرون فقد أجبروا على الاستقالة. وكان منهم البابا مارتن الأول الذي اتُهم بالخيانة وعزل في عام 653، وحُكم عليه بتجريده من ملابسه وبعرضه عارياً أمام الناس عقاباً له. ومنهم بنديكتوس الخامس الذي لم يرتق السدة البابوية الا لمدة شهر واحد فقط، وعُزل استجابة لرغبة الامبراطور الروماني أوتو الأول من أجل تعيين البابا ليون الثامن، الذي كان حليفاً له. ومنهم بنديكتوس التاسع الذي انتخب في عام 1032 بابا وهو في العشرين من عمره فقط. ويعود الفضل في وصوله الى السدة البابوية الى والده، الذي كان ثرياً وصاحب نفوذ. حتى انه شكل قوة عسكرية خاصة للدفاع عن بابوية ابنه. وكان آخر من استقال من البابوات في عام 1415، هو البابا غريغوري الثاني عشر، وذلك عندما واجهت الكنيسة أزمة في القيادة عرفت بأزمة "الإنشقاق الكبير".
في شهر شباط 2013، فهِمَ الكرادلة وكبار موظفي الفاتيكان المعنى الضمني لمبادرة بنديكتوس السادس عشر في ترك وشاحه البابوي فوق ضريح سيلستين الخامس. ومنذ ذلك الوقت بدأ الصراع الخفي على الخلافة. وربما كانت قضية تسريب وثائق خاصة بالبابا نفسه الى الاعلام وهي سابقة جديدة في التاريخ الحديث للفاتيكان- وبواسطة سكرتيره الخاص - أحد مؤشراتها المبكرة. وكان الكاردينال تارسيسيو برتوني سكرتير الدولة، أحد أبرز الشخصيات المتهمة بأنها تقف وراء تلك القضية.
والسؤال هو: لماذا اتخذ البابا قراره بالاستقالة، وهو يعرف انه يشكل بذلك سابقة تاريخية جديدة؟
صحياً كان البابا يشكو من ضعف في القلب. الا ان حالته الصحية لم تكن سراً شخصياً فقط، بل كانت سراً من أسرار الفاتيكان. فحتى الثاني عشر من فبراير 2013، لم يكن يعرف عن البابا انه يستخدم بطارية لتنظيم دقات قلبه. وانه أجرى عملية جراحية من أجل استبدال البطارية بواحدة جديدة. ولم يُعرف عنه انه خضع - قبل انتخابه- لعملية تركيب البطارية في القلب. أي أنه مضت عشر سنوات قبل الإعلان عن حالته الصحية. ولا يعرف ما إذا كان مجلس الكرادلة عندما انتخبه في عام 2005 خلفاً للبابا الراحل يوحنا بولس الثاني، كان على علم بهذا الأمر. فقد أجريت العملية سراً في ألمانيا موطن "الكاردينال ريتسنغر".
وللإيحاء بأن قراره بالاستقالة يعود الى أسباب صحية، تعمّد الإعلان عن ذلك في يوم ذكرى " ظهور مريم العذراء" في بلدة لورد في جنوب فرنسا. وهو يوم أعلنته الكنيسة "يوم المرضى".
ولكن لا يمكن في الوقت ذاته استبعاد مطلق لاحتمال وجود أسباب أخرى. فالحاكم المركزي لبنك الفاتيكان اعترف بأنه كان يمارس عملية تبييض العملة، الأمر الذي شوّه سمعة الفاتيكان، ما حمل البابا على طرده وتعيين حاكم جديد بدلاً منه. وانفجرت في وجه البابا فضائح اتهام عدد كبير من الأساقفة في العديد من الدول الأوروبية والولايات المتحدة بالاعتداء الجنسي على الأطفال، كما اتهمت الكنيسة بالسكوت عن تلك الفضائح وتغطية مرتكبيها. وتزامناً مع هذه القضية الأخلاقية التي آلمت البابا كثيراً، فتحت في وجهه أيضاً ملفات طالما اعتبرها مناقضة للعقيدة المسيحية ومنها الدعوة الى زواج الأساقفة، وتعيين أساقفة من النساء (كما يفعل الانجيليون)، ومنها إقرار زواج المثليين والإجهاض والطلاق وتحديد النسل، وهي قضايا أقرتها كنائس انجيلية أيضاً. إلا انها تتناقض مع إيمانه المتحفظ، بل الشديد التحفظ. ولقد تمسك بقواعد التشدد طوال السنوات الثماني من تبوئه السدة البابوية، ولم يخرج عنها الا بقراره بالاستقالة. فكان قراراً ثورياً وانقلابياً على كل القواعد التي التزم بها الباباوات من قبل، وكان آخرهم البابا يوحنا بولس الثاني. فقد استمر في موقعه رغم مرضه الشديد ورغم إصابته بالباركنسون وتقدّمه في السنّ. وكان مستشاره الخاص ينقل عنه قوله: "ان أحداً لا يستطيع أن ينزل عن الصليب".
وبحكم القانون، تولى الكاردينال برتوني أمين سرّ الدولة- الإعداد لمجمع الكرادلة المكلف بانتخاب البابا الجديد وتنظيم عملية انتخاب الخلَف.
و يتألف المجمع من 117 كاردينالاً. وبحكم القانون أيضاً لا يحق لأي كاردينال تجاوز الثمانين من العمر أن يترشح أو أن يمارس حق الاقتراع. ومن بين هؤلاء الأعضاء هناك 67 عضواً كان البابا بنديكتوس نفسه قد عيّنهم، منهم 37 أوروبياً وثلاثة عرب هم بطاركة الأشوريين في العراق، والاقباط الكاثوليك في مصر والموارنة في لبنان.
وينص النظام الانتخابي على أن يحصل المرشح للبابوية على ثلثي أصوات المقترعين على الأقل حتى يفوز بالمنصب. وعلى الرغم من أن عدد الكاثوليك في أوروبا يبلغ 277 مليوناً فقط، فيما يبلغ عدد الكاثوليك في أميركا الجنوبية 483 مليوناً، فان أكثر من نصف الكرادلة هم من القارة الأوروبية. ويشكل المسيحيون الكاثوليك في آسيا وافريقيا 26،9 بالمئة من كاثوليك العالم أي ما مجموعه 314 مليوناً، وهو أكثر من عدد كاثوليك أوروبا أيضاً. الا ان عدد الكرادلة من هاتين القارتين يبلغ 21 كاردينالاً فقط، أي ما نسبته 17،9 بالمئة، فيما تصل نسبة الكرادلة الأوروبيين الى 53 بالمئة (62 كاردينالاً). وهذا يعني ان الصوت المرجح هو للصوت الأوروبي في انتخاب البابا.
لقد أثار البابا بنديكتوس خلال فترة بابويته التي استمرت ثماني سنوات مشاكل مع كل من المسلمين واليهود والانجيليين الانكليكان وحتى مع المتشددين من المسيحيين الكاثوليك.
تعود المشكلة مع المسلمين الى محاضرة ألقاها في عام 2006 في جامعة ريتسنبورغ في ألمانيا بعد وقت قصير من انتخابه، استشهد فيها بحوار جرى في القرن الرابع عشر بين الامبراطور البيزنطي عمانويل الثاني وأحد العلماء المسلمين الفرس. وقال البابا في محاضرته ان الامبراطور كان يتحدث عن الحرب الدينية المقدسة في الاسلام الجهاد عندما قال: "(وأنا أنقل عنه ): دلني على أي جديد جاء به محمد (عليه الصلاة والسلام) سوى كل شيء شيطاني وغير انساني، مثل أوامره الى أتباعه بنشر الدين الذي يدعو اليه بحد السيف". كان طبيعياً أن ترتفع أصوات اسلامية مستغربة ومنددة ومستنكرة. وكان ردّ البابا على ذلك انه كان ينقل كلاماً عن الامبراطور، الا انه لم يقل صراحة أنه لا يتبنى قول الامبراطور. ثم ان ما ردده البابا بعد ذلك في المحاضرة، هو وصفه الجهاد في الاسلام "بالحرب المقدسة". وقوله "ان العنف باسم الدين مناقض للطبيعة الإلهية وللمنطق".. ولا بد من الاشارة هنا الى انه في عام 2006 كان الاسلام يتعرض لحملة تشهير غربية باعتبار انه مصدر للارهاب والعنف. ولذلك بدت أقواله حتى وإن لم يكن يقصد، وكأنها تقع في إطار هذه الحملة.
وتعود المشكلة مع اليهود الى إصراره على المضي قدماً في تطويب البابا بيوس قديساً، وهو الذي يتهمه اليهود بالتعاون مع النازية أثناء الحرب العالمية الثانية. ولذلك يعتبرون تقديسه تكريماً لدوره في عدم الدفاع عن اليهود في ايطاليا أثناء الاحتلال النازي.
وتتمثل المشكلة مع الانجيليين الانكليكان، بدعوته رعايا الكنيسة الى التخلي عنها، والإلتحاق بالكنيسة الكاثوليكية، علماً بأن الملكة اليزابيت هي رأس هذه الكنيسة!!
أما مشكلته مع المتشددين الكاثوليك، فتتمثل في رفع الحرم الكنسي عن "جمعية القديس بيوس العاشر" وهي جمعية ترفض الاعتراف بمقررات المجمع الفاتيكاني الثاني 1965 التي تدعو الى تجديد وعصرنة الكنيسة وانفتاحها على الأديان الأخرى بما فيها اليهودية والاسلام. ومن أبرز شخصيات هذه الجمعية ريتشارد ويلمسون الذي رفع الحرم البابوي عنه. وقد تعرض البابا الى حملة يهودية شعواء لأن ويلمسون كان يشكك في الهولوكوست ويطعن بصحة ارقام الضحايا. ولأن الجمعية تعارض قرار الفاتيكان تبرئة اليهود المعاصرين من مسؤولية صلب المسيح.
لقد تم حتى الآن انتخاب 265 بابا، ولم يستقل منهم سوى خمسة. والبابا بنديكتوس السادس عشر كان سادسهم. وكان أول بابا ألماني يصل الى السدة البابوية منذ أكثر من نصف قرن. وجاء بعد ستة عقود من انتهاء الحرب العالمية الثانية حيث أُلزم بالانضمام الى "الشبيبة النازية" كغيره من الشبيبة الألمان. ولما انتخب كان يبلغ من العمر 78 عاماً، اي انه كان أكبر مرشح للبابوية منذ عام 1730. ونظراً لعدم وجود سوابق حول أي لقب يعطى للبابا المستقيل بعد استقالته. وهل يتخلى عن اسمه الباباوي بنديكتوس، ويعود الى اسمه الأصلي ريتسنغر؟ وأي لباس يستخدم (البابا وحده يستخدم اللباس الأبيض دائماً) وأين يقيم؟ وكيف يكون التعامل معه "كممثل سابق للمسيح على الأرض".. فإن الفاتيكان وجد نفسه منشغلاً بقضية ما بعد البابا بنديكتوس أكثر من انشغاله بقضايا ما بعد انتخاب خليفته.
أما بنديكتوس نفسه، فانه يعرف جيداً كيف يقضي بقية عمره. فهو رجل أكاديمي بامتياز. وصدرت له مؤلفات عدة تميزت بالعمق بما فيها كتابه عن "المسيح ابن الناصرة".
كان البابا المستقيل، وهو ابن شرطي من ولاية بافاريا الكاثوليكية في جنوب ألمانيا، لعب دوراً فكرياً مهماً في المجمع الفاتيكاني الثاني الذي يوصف بأنه المجمع الذي صالح الكنيسة مع العصر ومع الأديان الأخرى، الا انه وقف ضد الحركات الكنسية المتحررة في أميركا الجنوبية منذ مطلع الثمانينات عندما تبوأ منصب رئيس مجلس العقيدة في الفاتيكان. وفي عام 2000 أصدر الوثيقة الفاتيكانية الشهيرة "دومينوس جيسوس" التي اعتبر فيها ان الحقيقة المسيحية تكمن في "الكاثوليكية" وحدها. الا انه لأسباب صحية، ولأسباب عديدة أخرى، لم يعد قادراً على الدفاع عن هذه الحقيقة المطلقة. فاتخذ أهم قرار في حياته الكهنوتية، وهو قرار الاستقالة من منصبه ممثلاً للمسيح على الارض!!.
ومن أهم الاسئلة التي طرحتها هذه الاستقالة، معنى أن يكون لدى الفاتيكان بابا جديد وبابا سابق. والاثنان يعيشان في الحرم الفاتيكاني ذاته. وتنطلق أهمية هذا السؤال من سؤال آخر. وهو ماذا اذا اتخذ البابا الجديد قراراً أو موقفاً مخالفاً لقرار أو لموقف سبق أن اتخذه البابا المستقيل؟ أو إذا عارض البابا المستقيل اجراء يدعو اليه البابا الجديد؟
إن الكنيسة الكاثوليكية تؤمن بعصمة البابا. وكان قد أقرّ مبدأ العصمة في المجمع الفاتيكاني الأول الذي عقد في عام 1860 وهو مبدأ ترفضه الكنائس الارثوذكسية والكنائس الانجيلية. في ذلك الوقت كان ملوك أوروبا يتنازلون عن بعض السلطات المطلقة التي كانوا يتمتعون بها أمام موجة الديموقراطية المتصاعدة. وكانت ممالكهم ودولهم تلتهم الممتلكات الفاتيكانية. فجاء قرار اعتبار البابا معصوماً بمثابة تعويض معنوي كبير له ولدور الكنيسة. وهذا يعني ان القرارات التي يتخذها البابا "اكس كاتدرا" تتمتع بالعصمة وتعتبر ملزمة لكل أبناء الكنيسة الكاثوليكية (مليار و 200 مليون كاثوليكي). من ذلك مثلاً القرار الذي اتخذه البابا بيوس التاسع في عام 1854 ونص على عذرية السيدة مريم أم المسيح. والقرار الذي اتخذه البابا بيوس الثاني عشر في عام 1950 ونصّ على أن مريم صعدت الى السماء بالروح والجسد معاً (من دون أن يذكر القرار ما اذا كانت مريم توفيت قبل ذلك).
لم يطرح قبل الآن موضوع مصير العصمة بعد استقالة صاحبها، او استمرارها معه حتى الوفاة. ولم يواجه الفاتيكان قبل الآن حالة يتمتع فيها اثنان من البابوات في وقت واحد، بالعصمة. ولذلك فان قرار بنديكتوس السادس عشر بالاستقالة يعتبر أهم قرار وأجرأ قرار- اتخذه طوال الأعوام الثمانية من اعتلائه السدة البابوية، ذلك ان هذا القرار قد يغير من الطبيعة البابوية في المستقبل على نحو لا سابق له.