هل تفتتح التطورات في تونس موجة غير مسبوقة من "الاحتقان المذهبي" المالكي - الحنبلي
تبدأ بالتوازي مع الاحتقان السني - الشيعي؟
النهار-٢٥- ٨-٢٠١٢
يوم الثلاثاء المنصرم نقلت وكالة الصحافة الفرنسية تصريحا للقيادي البارز في "حركة النهضة" الحاكمة في تونس الشيخ عبد الفتاح مورو في سياق اعتراضه على تزايد بل تفاقم النشاط السلفي في بلده، يقول: "نحن لا مشكلة لدينا مع المذهب الحنبلي، لكن نحن في تونس لدينا وحدة المذهب المالكي... هذا باب فتنة إياكم يا توانسة منه".
وزارة الثقافة التونسية التي يرئسها وزيرٌ من "النهضة" في الإئتلاف الحكومي مع العلمانيين، اعتبرت ذلك أيضاً "إنذاراً باحتقانٍ مذهبي غريب عن مجتمعنا" في معرض "إدانتها" لِـ"تواتر الاعتداءات على التظاهرات الثقافية في مناطق مختلفة من بلادنا".
تَعوّدْنا أن تُستخدَم كلمة "احتقان مذهبي" في مجال الحديث عن الحساسية السنية الشيعية "المزدهرة" في السنوات الأخيرة في العالم العربي ومنذ سنوات أطول (التسعينات من القرن المنصرم) في بعض العالم المسلم كباكستان،
لكنْ جديدٌ علينا أن نسمع عن "احتقان مذهبي" بين الحنابلة والمالكيين.
أي بين مذهبين من "المذاهب الأربعة" لـ"أهل السُنّة".
هناك جذر تاريخي لهذه الحساسية يعود إلى أكثر من مئتي عام عندما حصل سجال حاد بين المذهبين ، إنما بقي ضمن الحدود الفقهية.
ففي عام 1807 ردّ بعض أكبر علماء الدين المالكيين في تونس على رسالة كان قد بعث بها حاكم نجد سعود بن عبد العزيز بن سعود إلى "باي" تونس و"داي" الجزائر وسلطان مراكش يدعوهم فيها الى التخلي عن مذهبهم وتبني مذهبه (الحنبلي).
والرسالة وردود بعض فقهاء المالكية التونسية متداولة بنصوصها الحرفية بما في الأولى من دعوة الزعيم السعودي إلى التخلّي عن"الإشراك بالله" عبر الامتناع عن التبرّك بالأولياء و بناء المقامات لتكريمهم والتوجه إليهم بالنذور وغير ذلك من المواقف التي تشتهر بها الوهابية (ولاسيما في مآخذها الأكثر حِدّةً على الشيعة).
وقد لفتني في الرسالة السعودية أنها تستند، في جملة ما تستند إليه، إلى حديث عن النبي محمد أنه أرسل عليَّ بن أبي طالب لكي يسوّي بالأرض "كل قبر مُشْرِفٍ" أي مرتفع.
وفي رد الشيخ عمر المحجوب المالكي على رسالة ابن سعود وفي معرض نقده لرفض الوهابية التقرب إلى الله عبر الأشخاص، يستند إلى أن الخليفة عمر بن الخطاب في أحد أعوام انقطاع المطر المسمّى "عام الرمادة" خرج مع عم النبي العباس بن عبد المطلب لإقامة صلاة الإستسقاء ممسكا بيد العباس وداعياً إلى التقرب للّه عبر "عمّ نبيِّنا".
الرسالة والرد
(موقع مجلة الزيتونة)
التاريخ عندما يتقدم - وهو دائما يتقدم- لا يقف عند حدٍ حتى وهو يأخذ شكل العودة إلى الوراء! أو عندما يتشكّل، كما يحدث حاليا، في "نموذجٍ" فكريٍّ هو مزيجٌ من "نهاية التاريخ" أي الديموقراطية ومن إحدى بداياته الكبرى قبل 14 قرناً وثلث القرن أي الإسلام.
لقد كنتُ دائماً مؤيّداً لوجهة النظر القائلة أن العصور الحديثة لم تشهد سوى بشكلٍ محدود وهامشي صراعا بين السُنّة والشيعة بحيث لم يكن في مقدمة العوامل الدافعة للصراع السياسي بعكس ما أصبح عليه الآن. بهذا المعنى ليس مبالغةً القول أن الصراع السني الشيعي هو "إعادةُ ابتكارٍ" حديثة أنتجتها بصيغتها الحالية مصالحُ جيوبوليتيكية إقليمية ودولية في المنطقة خصوصاً منذ ظهرت أول ثورة معاصرة ذاتِ طابعٍ دينيٍّ وشخصيةٍ مذهبيةٍ نافرةٍ هي الثورة الإيرانية.
الأمر الذي جدّد بالمقابل الدينامية المذهبية الخارجية لنظام الحكم السعودي مما ساهم و بدعم غربيٍ في التحجيم الأيديولوجي للثورة الإيرانية وتحويلها من مدٍّ إسلاميٍّ إلى مجرّد مدٍّ شيعي. أي إلى جعلها بلا أنياب أيديولوجية رغم كل عناصر القوة الأخرى التي حققتها في الجغرافيا السياسية ولكنها تبدو الآن قوةً محاصَرَةً لا محاصِرة.
هل يواصل التاريخ – التاريخ الآتي- "إعادة ابتكار" مستويات أخرى للشقاق الإسلامي-الإسلامي فيكون الخبر التونسي إشارةً سابقةً لأوانها على انتقال هذا الشِقاق إلى عمق جديد داخل المذاهب السنية الأربعة بعد العمق السني الشيعي تؤشِّر عليه الحالة التونسية التي يبدو أن دورَها يتكرر مرة ثانية في إطلاق الشرارة الأولى لظاهرة جديدة منذ اندلاع "الربيع العربي" على أراضيها؟
لو لم يندلع "الربيع العربي" الذي سيحمل معه الى السلطة بأزخامِ متفاوتة حركاتِ "الإخوان المسلمين" في تونس ومصر والمغرب ومعها ارتفاع التأثير المباشر والعلني للتيارات السلفية، لو لم تحصل كل هذه المنعطفات هل كان يمكن أن نشهد بداية تحوّل التباين "الإخواني"- السلفي الى احتقان مذهبي مع السلفيين كحنابلة وهم – أي السلفيون- التكوين الديني الذي تَسيَّس بعد مرحلة طويلة من العمل خارج السياسة؟ وفي الحالتين كان تحت التأثير - التمويل السعودي؟
كلا التكوينين يجمعهما طبعاً الموقف السلبي بل العداء لأنشطة التشييع المرتبطة بالنظام الإيراني أكانت فعلية هنا أو مبالَغاً بها هناك... مع فارقٍ أساسي بينهما هو أن "الإخوان المسلمين" وهم الأحزاب الدينية في البيئة السنية والتيار المؤسس للحركات الإسلامية الأصولية المعاصرة في كل العالم المسلم يأتي معظمهم أساسا من إرث انفتاح على الحركات الإسلامية الشيعية الأصولية وعلاقة - خصوصا "الإخوان المصريين"- مع الثورة الإيرانية كان عنوانها المعلَن هوالعلاقة بين إيران و"حركة حماس".
"الربيع العربي" يبلور الأحداث في اتجاهات جديدة عديدة.
فـ"الصفقة" البراغماتية التي حملها هذا "الربيع" معه بين الولايات المتحدة الأميركية وبين "الإخوان المسلمين" استلزمت إعادة تحديد مسافة لهم عن إيران.
ومسعى "الإخوان" العرب (باستثناء تنظيم "الإخوان" السوريين) الآن هو إعادة صياغة علاقة مع إيران لا تعتبرها عدوةً بل تبني صلاتٍ ديبلوماسيةً معها باسم الدول التي تحكم بحيث تتميّز عن القطيعة الكاملة مع إيران التي كان يقيمها نظام الرئيس السابق حسني مبارك ولكن دون أن تذهب إلى حد الخروج السافر عن الإجماع الغربي ضد إيران أو عن حساسية المؤسسات السنية الكبرى ضد ما هو مفتَرض أنه أنشطة تشييع في بيئات سنية صافية.
الاتجاه الآخر الذي تبلورُه إذاً التحولاتُ هو ظهور التناقض "الإخواني" مع السلفيين بعد استلام السلطة في تونس او بالحد الأدنى "التحالف اللدود مع السلفيين" تحت ضغط الإعتبارات الإنتخابية، كما حصل في مصر واستمرار قدَرٍ من هذا التحالف السياسي بينهم في مواجهة الأخصام المشتَرَكين ، مع العلم أن الشخصية المذهبية الإسلامية لمصر يرسمها أساسا الأزهر الذي أخذ شيخُه ولا يزال موقفا صلباً ضد محاولات التشييع الجعفري الإيراني مع تذكيره الدائم بضرورة الابتعاد عن "فقه البادية" ، وهو التعبير المقصودة به ضمنا الوهابية.
وإذا صحّت معلومات بعض الديبلوماسيين الغربيين والعرب من أنقرة، فسنكون أيضاً أمام بدء ظهور مسافةٍ سلبيةٍ آخذةٍ بالتشكّل في الصراع على وفي سوريا بين "الإخوان" السوريين الأكثر تنسيقاً مع الأتراك، أتراك "حزب العدالة والتنمية"، وبين السلفيين السوريين وغير السوريين المحتَشَدين من جنسيات مختلفة عبر بعض الحدود المحيطة بسوريا وهم الأكثر تأثّراً بالمملكة العربية السعودية.
فهل تتطوّر هذه المسافة السلبية في مرحلة لاحقة من الصراع داخل سوريا إلى صِدامٍ بين "أحناف" شَوامٍ حيث الأكثرية التاريخية للمذهب الحنفي في بلاد الشام منذ العهد السلجوقي قبل العثماني وبين الحنابلة السوريين الجدد؟
رغم هذا السؤال لا بد للمراقب الجاد أن يحتفظ حياله ببعض التحفظ لأن للسعودية تأثيرا تقليديا كبيرا على "الإخوان المسلمين" السوريين لاسيما في مرحلة المنافي البادئة منذ استلام الرئيس جمال عبد الناصر للسلطة في دمشق عام 1958 فما بعد مرورا بالعهود البعثية.
لكن هذا لا ينبغي أن يجعلنا نغفل إمكان تفاقم الحذر السعودي من التنظيمات "الإخوانية" بعد وصولها "الربيعي" إلى السلطة من حيث احتمال تأثيرها على الوضع الداخلي والخليجي أو على الأقل تزايد الهواجس حياله؟
نجح "الربيع العربي" في إخراج إيران جدياً من المزاج الثوري العربي وبالتالي من أجندة النخب العربية الحاملة للشعار الديموقراطي فيما أعاد "الربيع" بناء تحالفٍ استراتيجيٍّ بين هذه النخب والولايات المتحدة الأميركية.
غير أن المسألة المذهبية التقليدية التي انضمّت الإدارة الأميركية إلى صف مُشجّعيها منذ الولاية الثانية للرئيس جورج بوش بعد تحالفٍ فعليٍّ مع الشيعية السياسية في العراق أدّى بمجرد غزو العراق وإسقاط صدام حسين إلى وصول الأحزاب الشيعية الى السلطة في بغداد... هذه المسألة المذهبية التي عَطَبَتْ "القوةَ الناعمةَ" الإيرانيةَ يمكن أن تترافق مع خطٍ موازٍ هو ظهورها التدريجي بسبب المعطيات الجديدة التي أفرزها "الربيع العربي" بين بعض المذاهب السنية نفسها.
إنها "الفتنة" في إحدى صيغها القاتلة الجديدة.
بل إنها إحدى "الفِتن" القاتلة في منطقة من الصعب أن تتمكن طبقاتها الوسطى الجديدة الرافعة للشعار الديموقراطي من أن تضبط الصراع الإجتماعي وشِقاقاته المذهبيةَ بأشكالها السياسية المختلفة بوجود هذا العدد المتزايد من الملايين الفقيرة بل الجائعة في مصر والعراق والمغرب والجزائر و... حيث سيظهر بصورة متأزّمة أثَرُ تماهي الشخصية الوطنية للبلد مع الشخصية المذهبية فيه.
Envoyé de mon iPad jtk