As-Safir Newspaper - عبد الله بو حبيب : الشرق العربي وإشكالية التنوّع والقبول بالآخر المختلف
تثير المرحلة التي تمر بها منطقة الشرق العربي، وما تثيره من مخاطر وتحديات، مسألة الوجود المسيحي وتراجعه بوصفه «خياراً إسلامياً»..
إن إشكالية المساواة والمحافظة على الوجود والدور الفاعل، كانت دائماً هاجساً وتحدياً أمام المسيحيين المشرقيين. ومنذ أيام «الصحوة العربية» في عصر النهضة في القرن التاسع عشر، تصدّت النخب المسيحية المشرقية لتحدي الحفاظ على الوجود وتكريس الدور الفاعل، في ظل متغيّرات كانت تعصف بالسلطنة العثمانية.
كانت هذه النخب المسيحية متفقة على المبادئ الأساسية، المساواة مع مواطني هذه المنطقة والحفاظ على الوجود والمصير، لكنها اختلفت حول النهج الذي يجب اتباعه في سبيل تحقيق هذه الأهداف. وبرز اتجاهان، خاصة في القرن العشرين، الأول يرفع لواء الإيديولوجيات اليسارية والقومية والاندماج في مجتمعات المنطقة ورفع رايات القومية الجامعة التي تحفظ حقوق جميع المواطنين وتساوي بينهم. أما الاتجاه الثاني والذي برز في لبنان فرأى أن الاعتماد على القوة الذاتية والتمسك بمواقع أساسية في السلطة هو ما يحمي المسيحيين ويحفظ المساواة بينهم وبين شركائهم في المواطنية.
ومن نافل القول إن هذين الاتجاهين وصلا إلى طريق مسدودة، فالدور المسيحي في السلطة السياسية انحسر وتراجع، وأصبح وجود المسيحيين مهدداً بحد ذاته في بعض الدول، كما حصل في العراق، حيث تعرّضوا للقتل والتهجير، في حين يعاني المسيحيون في دول أخرى كمصر وسوريا من مضايقات مختلفة.
إن دور المسيحيين تاريخياً ومنذ العصور الإسلامية الأولى شكّل قيمة مضافة لمجتمعات المنطقة، في لعب دور متميّز في التفاعل الحضاري الإيجابي الذي أثرى الحضارة العربية الإسلامية، فكان الدور المهم للمسيحيين المشرقيين إلى جانب الخلفاء والحكّام العرب. لكن هذا الدور النهضوي، بدأ يتراجع في العصر العباسي لمصلحة دخول العنصر غير العربي، وخاصة الفارسي والتركي، إلى دوائر صنع القرار، فنافسوا أهل البلد المسيحيين في لعب الدور التجديدي.
وفي القرن العشرين وعلى الرغم من كل الصعوبات التي واجهوها خلال الألفية الثانية، بقي المسيحيون المشرقيون متمسكين بوجودهم وانتمائهم إلى هذه الأرض ورياديين في كل الميادين، فشاركوا بعد الحرب العالمية الأولى في الحياة السياسية بفعالية وكانوا أساسيين في المعادلة الوطنية. لكن العقود الأخيرة، بخاصة بعد هزيمة 1967، حملت معها موجات خطرة من التعصب والارتداد إلى الماضي وتهميش مقصود للدور المسيحي.
وعلى الرغم من الصعوبات والاتجاهات المتشددة التي انتشرت في معظم الدول العربية، فإن نخباً عربية ومسلمة عدة تعي أهمية الدور المسيحي الفاعل في المنطقة، وتعتبره مسؤولية إسلامية حضارية، لا سيما في عصر العولمة والتطور المتسارع وانفتاح الحضارات على بعضها بعضاً. وهذا ما أشار إليه المؤرخ الراحل الدكتور كمال الصليبي الذي أكّد أن القيادات السياسية العربية مدركة تمام الإدراك أهمية دور المسيحيين العرب وبالتحديد مسيحيي لبنان في الحفاظ على مفهوم العروبة، وأن الدول العربية الفاعلة كرّست الدور المسيحي في السلطة اللبنانية من خلال رعايتها ومساهمتها في إصدار وثيقة الطائف([ [).
لكن التحديات الماثلة في أفق هذه المنطقة ترخي بظلالها على وضع المسيحيين. فالمجتمعات العربية عموماً تشهد موجة انتشار الفكر المتشدّد الذي يعبّر عن معضلة الصدام مع الحداثة وأزمة الهوية، ضد ما تعتبره فئات في هذه المجتمعات «تغريباً» واستهدافاً لحضارتها، ما يقود إلى التطلع إلى الماضي الإسلامي على أن نظمه وأساليبه وأحكامه هي السبيل إلى النهضة العربية المنشودة. وهذا الانشداد إلى الماضي يتناقض مع تطلعات المسيحيين المنشدّين إلى العصرنة والتطور العالمي تاريخياً، بحكم الدور الحضاري الذي لعبوه في الوصل بين الغرب والشرق. لا بل إن التطلع الأصولي الماضوي يتناقض أيضاً مع تطلّعات الشرائح الليبرالية والمدنية في المجتمعات الإسلامية، وهي تعاني كثيراً من هذه الاتجاهات في سعيها إلى مواكبة الحداثة.
انطلاقاً من هذا المشهد، فإن المسيحيين ما زالوا متمسّكين بأهدافهم الأساسية، وهي الحفاظ على وجودهم في الشرق وعلى دور فاعل تحت مبدأ المساواة في المواطنية. وفي عصر باتت فيه الدساتير هي التي تحفظ حقوق المواطنين وحرياتهم من دون أي منّة من السلطة السياسية، فإن المسيحيين تعبوا من الحديث عن «التسامح» نحوهم أو عن حلول لا تخرج عن إطار «الحماية» و«الذمية».
وترتدي اليوم المحافظة على الوجود المسيحي في الشرق العربي أهمية كبيرة لاتصالها بقضية التنوع والتعددية في العالم أجمع. فالتعددية هي سمة عالمية تواجه الكثير من دول العالم، والفشل في إدارتها سيؤدي إلى تعزيز نظرية «صدام الحضارات»، وهذا ما يستدعي من التبصر والتفكير في كيفية إدارة التعددية في شكل ناجح من ضمن الحفاظ على وحدة دول المنطقة ومجتمعاتها. إذ إن إشكالية التعددية لم تجد حلولاً نهائية حتى في العالم المتقدم وخاصة في أوروبا، حيث تواجه صعوبات عدة. ونشهد في دول غربية ظواهر متطرفة نتيجة للتخوّف الشعبي من ظاهرة المهاجرين المسلمين وولائهم للدول التي يعيشون فيها ومدى اندماجهم في مجتمعاتها، ما يفاقم من حدة المشكلة التي تطرحها إدارة المجتمعات التعددية عالمياً.
لكن عدداً قليلاً من هذه الدول سلك طريقاً قد توصله في نهاية المطاف نحو تعزيز التعايش بين المكوّنات الاجتماعية المختلفة. فالولايات المتحدة مثلاً استطاعت استيعاب موجات ضخمة من المهاجرين من إثنيات وقوميات وطوائف مختلفة، إذ أعطت لجميعها حقوقها وحرياتها والمحافظة على خصوصيتها بعد عناء طويل ومرير، وهذا ما ساهم في تمتين العلاقة بين هذه المجموعات ورسّخ ولاءها للدولة التي يكرّس دستورها المساواة والتعددية، على الرغم من استمرار وجود ظواهر متطرفة كثيرة.
والحديث عن التعددية يطرح الوضع في لبنان وموقع المسيحيين فيه. فهذا الوطن الذي «أسّسه المسيحيون والموارنة خاصة ليكون وطن حريات وتنوع في الشرق، سمح بخلق مساحة من التميّز لدى كل من مكوّناته». فهكذا نجد مثلاً أن السني اللبناني يتميّز عن السني المصري، والشيعي اللبناني يتميّز عن الشيعي العراقي، وكذلك الأمر بالنسبة للمسيحيين الذين يتميّزون عن المسيحيين في دول عربية أخرى. وهذا المعطى الحضاري والذي تميّز بحريات كبيرة وبقدر محترم من الديموقراطية على الرغم من العثرات التي تواجهها، منح لبنان دوره المؤثر في العالم العربي، فكان النموذج اللبناني، كواحة للحرية والديموقراطية، تأكيداً للعروبة الحضارية الليبرالية، على خلاف معظم الأنظمة العربية السلطوية، ونموذجاً نقيضاً لفكرة إسرائيل العنصرية، ولسيطرة الأقليات على الحكم في الكثير من دول المنطقة.
لذا فإن الحفاظ على هذا النموذج ـ الرسالة كما دعا إليه البابا يوحنا بولس الثاني، هو إشكالية عالمية. ففي العالم اليوم نحو ملياري مسيحي ومليار ونصف مليار مسلم، ينتشرون في أرجاء الكرة الأرضية، لكنهم لا يتساوون في الحقوق والواجبات كما هو الحال وإلى حد بعيد، في لبنان. وبالتالي فإن سقوط النموذج اللبناني هو إعلان صارخ لفشل إمكانية التعايش بين المسيحية والإسلام في دول العالم، مما يحمل معه الأزمات المستعصية خاصة في الشرق العربي وأوروبا الغربية وجنوبي آسيا.
([) سفير سابق في واشنطن ومدير عام مركز عصام فارس للشؤون اللبنانية.
([[) في مناقشة لكتاب «بقاء المسيحيين في الشرق خيار إسلامي» للكاتب أنطوان سعد.
إن إشكالية المساواة والمحافظة على الوجود والدور الفاعل، كانت دائماً هاجساً وتحدياً أمام المسيحيين المشرقيين. ومنذ أيام «الصحوة العربية» في عصر النهضة في القرن التاسع عشر، تصدّت النخب المسيحية المشرقية لتحدي الحفاظ على الوجود وتكريس الدور الفاعل، في ظل متغيّرات كانت تعصف بالسلطنة العثمانية.
كانت هذه النخب المسيحية متفقة على المبادئ الأساسية، المساواة مع مواطني هذه المنطقة والحفاظ على الوجود والمصير، لكنها اختلفت حول النهج الذي يجب اتباعه في سبيل تحقيق هذه الأهداف. وبرز اتجاهان، خاصة في القرن العشرين، الأول يرفع لواء الإيديولوجيات اليسارية والقومية والاندماج في مجتمعات المنطقة ورفع رايات القومية الجامعة التي تحفظ حقوق جميع المواطنين وتساوي بينهم. أما الاتجاه الثاني والذي برز في لبنان فرأى أن الاعتماد على القوة الذاتية والتمسك بمواقع أساسية في السلطة هو ما يحمي المسيحيين ويحفظ المساواة بينهم وبين شركائهم في المواطنية.
ومن نافل القول إن هذين الاتجاهين وصلا إلى طريق مسدودة، فالدور المسيحي في السلطة السياسية انحسر وتراجع، وأصبح وجود المسيحيين مهدداً بحد ذاته في بعض الدول، كما حصل في العراق، حيث تعرّضوا للقتل والتهجير، في حين يعاني المسيحيون في دول أخرى كمصر وسوريا من مضايقات مختلفة.
إن دور المسيحيين تاريخياً ومنذ العصور الإسلامية الأولى شكّل قيمة مضافة لمجتمعات المنطقة، في لعب دور متميّز في التفاعل الحضاري الإيجابي الذي أثرى الحضارة العربية الإسلامية، فكان الدور المهم للمسيحيين المشرقيين إلى جانب الخلفاء والحكّام العرب. لكن هذا الدور النهضوي، بدأ يتراجع في العصر العباسي لمصلحة دخول العنصر غير العربي، وخاصة الفارسي والتركي، إلى دوائر صنع القرار، فنافسوا أهل البلد المسيحيين في لعب الدور التجديدي.
وفي القرن العشرين وعلى الرغم من كل الصعوبات التي واجهوها خلال الألفية الثانية، بقي المسيحيون المشرقيون متمسكين بوجودهم وانتمائهم إلى هذه الأرض ورياديين في كل الميادين، فشاركوا بعد الحرب العالمية الأولى في الحياة السياسية بفعالية وكانوا أساسيين في المعادلة الوطنية. لكن العقود الأخيرة، بخاصة بعد هزيمة 1967، حملت معها موجات خطرة من التعصب والارتداد إلى الماضي وتهميش مقصود للدور المسيحي.
وعلى الرغم من الصعوبات والاتجاهات المتشددة التي انتشرت في معظم الدول العربية، فإن نخباً عربية ومسلمة عدة تعي أهمية الدور المسيحي الفاعل في المنطقة، وتعتبره مسؤولية إسلامية حضارية، لا سيما في عصر العولمة والتطور المتسارع وانفتاح الحضارات على بعضها بعضاً. وهذا ما أشار إليه المؤرخ الراحل الدكتور كمال الصليبي الذي أكّد أن القيادات السياسية العربية مدركة تمام الإدراك أهمية دور المسيحيين العرب وبالتحديد مسيحيي لبنان في الحفاظ على مفهوم العروبة، وأن الدول العربية الفاعلة كرّست الدور المسيحي في السلطة اللبنانية من خلال رعايتها ومساهمتها في إصدار وثيقة الطائف([ [).
لكن التحديات الماثلة في أفق هذه المنطقة ترخي بظلالها على وضع المسيحيين. فالمجتمعات العربية عموماً تشهد موجة انتشار الفكر المتشدّد الذي يعبّر عن معضلة الصدام مع الحداثة وأزمة الهوية، ضد ما تعتبره فئات في هذه المجتمعات «تغريباً» واستهدافاً لحضارتها، ما يقود إلى التطلع إلى الماضي الإسلامي على أن نظمه وأساليبه وأحكامه هي السبيل إلى النهضة العربية المنشودة. وهذا الانشداد إلى الماضي يتناقض مع تطلعات المسيحيين المنشدّين إلى العصرنة والتطور العالمي تاريخياً، بحكم الدور الحضاري الذي لعبوه في الوصل بين الغرب والشرق. لا بل إن التطلع الأصولي الماضوي يتناقض أيضاً مع تطلّعات الشرائح الليبرالية والمدنية في المجتمعات الإسلامية، وهي تعاني كثيراً من هذه الاتجاهات في سعيها إلى مواكبة الحداثة.
انطلاقاً من هذا المشهد، فإن المسيحيين ما زالوا متمسّكين بأهدافهم الأساسية، وهي الحفاظ على وجودهم في الشرق وعلى دور فاعل تحت مبدأ المساواة في المواطنية. وفي عصر باتت فيه الدساتير هي التي تحفظ حقوق المواطنين وحرياتهم من دون أي منّة من السلطة السياسية، فإن المسيحيين تعبوا من الحديث عن «التسامح» نحوهم أو عن حلول لا تخرج عن إطار «الحماية» و«الذمية».
وترتدي اليوم المحافظة على الوجود المسيحي في الشرق العربي أهمية كبيرة لاتصالها بقضية التنوع والتعددية في العالم أجمع. فالتعددية هي سمة عالمية تواجه الكثير من دول العالم، والفشل في إدارتها سيؤدي إلى تعزيز نظرية «صدام الحضارات»، وهذا ما يستدعي من التبصر والتفكير في كيفية إدارة التعددية في شكل ناجح من ضمن الحفاظ على وحدة دول المنطقة ومجتمعاتها. إذ إن إشكالية التعددية لم تجد حلولاً نهائية حتى في العالم المتقدم وخاصة في أوروبا، حيث تواجه صعوبات عدة. ونشهد في دول غربية ظواهر متطرفة نتيجة للتخوّف الشعبي من ظاهرة المهاجرين المسلمين وولائهم للدول التي يعيشون فيها ومدى اندماجهم في مجتمعاتها، ما يفاقم من حدة المشكلة التي تطرحها إدارة المجتمعات التعددية عالمياً.
لكن عدداً قليلاً من هذه الدول سلك طريقاً قد توصله في نهاية المطاف نحو تعزيز التعايش بين المكوّنات الاجتماعية المختلفة. فالولايات المتحدة مثلاً استطاعت استيعاب موجات ضخمة من المهاجرين من إثنيات وقوميات وطوائف مختلفة، إذ أعطت لجميعها حقوقها وحرياتها والمحافظة على خصوصيتها بعد عناء طويل ومرير، وهذا ما ساهم في تمتين العلاقة بين هذه المجموعات ورسّخ ولاءها للدولة التي يكرّس دستورها المساواة والتعددية، على الرغم من استمرار وجود ظواهر متطرفة كثيرة.
والحديث عن التعددية يطرح الوضع في لبنان وموقع المسيحيين فيه. فهذا الوطن الذي «أسّسه المسيحيون والموارنة خاصة ليكون وطن حريات وتنوع في الشرق، سمح بخلق مساحة من التميّز لدى كل من مكوّناته». فهكذا نجد مثلاً أن السني اللبناني يتميّز عن السني المصري، والشيعي اللبناني يتميّز عن الشيعي العراقي، وكذلك الأمر بالنسبة للمسيحيين الذين يتميّزون عن المسيحيين في دول عربية أخرى. وهذا المعطى الحضاري والذي تميّز بحريات كبيرة وبقدر محترم من الديموقراطية على الرغم من العثرات التي تواجهها، منح لبنان دوره المؤثر في العالم العربي، فكان النموذج اللبناني، كواحة للحرية والديموقراطية، تأكيداً للعروبة الحضارية الليبرالية، على خلاف معظم الأنظمة العربية السلطوية، ونموذجاً نقيضاً لفكرة إسرائيل العنصرية، ولسيطرة الأقليات على الحكم في الكثير من دول المنطقة.
لذا فإن الحفاظ على هذا النموذج ـ الرسالة كما دعا إليه البابا يوحنا بولس الثاني، هو إشكالية عالمية. ففي العالم اليوم نحو ملياري مسيحي ومليار ونصف مليار مسلم، ينتشرون في أرجاء الكرة الأرضية، لكنهم لا يتساوون في الحقوق والواجبات كما هو الحال وإلى حد بعيد، في لبنان. وبالتالي فإن سقوط النموذج اللبناني هو إعلان صارخ لفشل إمكانية التعايش بين المسيحية والإسلام في دول العالم، مما يحمل معه الأزمات المستعصية خاصة في الشرق العربي وأوروبا الغربية وجنوبي آسيا.
([) سفير سابق في واشنطن ومدير عام مركز عصام فارس للشؤون اللبنانية.
([[) في مناقشة لكتاب «بقاء المسيحيين في الشرق خيار إسلامي» للكاتب أنطوان سعد.
Envoyé de mon iPad jtk
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire
Remarque : Seul un membre de ce blog est autorisé à enregistrer un commentaire.